مرات مشاهدة الصفحة في الأسبوع الماضي

2011/08/29

اللهجة الحسانية كلهجة بدوية

اللهجة الحسانية هي لهجة بدوية مشتقة من العربية التي كانت تتحدثها قبائل بني حسان والذين سيطروا على أغلب صحاري موريتانيا و جنوب المغرب بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر.والكلمة لهجة بمعنى لغة ما كلمة عامية. هذه اللهجة جاءت كبديل عن البربرية التي كانت تتحدثها تلك القبائل. ليس للهجة الحسانية علاقة باللهجات المغاربية الأخرى. تعتبر من أفصح اللهجات العربية، وذلك بحكم العزلة التي ظلت قبائل بني حسان العربية تعيش فيها في أعماق الصحراء الكبرى. ولأن الدولة العثمانية لم تصل إلى المغرب و موريتانيا، ولأن الاستعمار الفرنسي لم يزد على 50 عاماً وظل مهمشا ومعزولا من قبل السكان، لذا كانت التأثيرات الخارجية قليلة في اللهجة العربية الموريتانية. وإذا استثنينا تعابير بربرية قليلة وأخرى ولوفية، فإن اللهجة الحسانية الموريتانية تعتبر من أقرب اللهجات المعاصرة إلى اللغة العربية الفصحى. هناك أكثر من لهجة حسانية والفرق بينها هو كيفية النطق أي اللهيج. تعابير تستخدم الحسانية كما في العربية المجاز لتعبير عن بعض الأمور بحيث أن من لا يعرف المعني المقصود من مثل هذا النوع من التعابير إلا من يعرف الحسانية جيدا بل إن بعضها يعرفه بعض سكان جهة معينة في موريتانيا فقط. التعابير الشهيرة و معانيها التعبير بالحسانية المقابل بالعربية الفصحى المراد من التعبير الشهر مات مات الشهر أنتهى الشهر الصالحين أولياء الله الصالحين المقبرة و الصالحين هنا تفائلا و رجاء بكونهم صالحين. أهل بسم الله الرحمن الرحيم أهل بسم الله الرحمن الرحيم الجن و ذلك لأنه لا ينطق بإسمهم (أي الجن) مباشرة حتى لا يحضروا.

2011/08/28

والطب الشعبي في الصحراء

-كما يقول الباحث الإيطالي غودي‑ :"مازال يمارسه الطبيب، وهو مداو متنقل كعادة الرحل، لكنه يعرف غالبا العلاج النباتي. كما أن أطباء الصحراء ليسوا دجالين ماكرين ولا سحرة مشعوذين، لكن عليهم واجبات، ويعون جيدا أدبيات التطبيب التي تجعلهم محترفين وقورين".

ونظرا لانتشار مجموعة من الأمراض بالصحراء، نجد الكثير من الحسانيين يلجأون إلى التحوط بالعديد من الممارسات والطقوس الشعبية التي تندرج ضمن دائرة المداواة بالأعشاب، ومن أشهر هذه الأمراض أكندي‑Aguendi، وهو مرض يتولد عن الإفراط في أكل مواد حامضة جدا أو مملحة، أو أي أكل لا يتلاءم مع المعدة. ومن أعراض هذا المرض بروز ورم في الوجه أو أحد أعضاء الجسم، وأيضا حدوث سيحان (رزحة)، فضلا عن الإحساس بالدوار والحمى وتكسر في العظام وثقل في السمع ..
ويعرفه الصيدلي المغربي جمال بالخضر بكونه: "مرض غير محدد في أدبيات التطبيب الصحراوي.. ويمكن تعريفه على أنه"مرض الملح"، حيث أن البدو يخشون كثيرا الملح.."
ويمكن تقسيم مرض أكندي إلى نوعين: أكندي الذوق وأكندي الشم، وكلاهما تتم معالجته بتناول العيش البايت (العصيدة)، أو عن طريق استعمال تاجماخت، وهي نبات (برتقالي اللون ) يجلب من تراب موريتان، يتم دقه وشربه بالماء المحلى. وهناك من الناس من يستعمل، للشفاء من مرض أكندي، مايعرف في الصحراء ب"أستغن"، وهو خليط العلك (الصمغ العربي أو الأكاسيا) والدسم.
هكذا يستنتج على أن المواد الحلوة تتحول إلى وسيلة لمداواة مرض أكندي .. غير أن الإكثار منها والإفراط في تناولها يتسبب في الإصابة بمرض آخر ينتشر كثيرا بالصحراء هو "أوراغ " الذي يتم علاجه عن طريق استهلاك بلغمان، وهو من أشهر وأيسر الأكلات الشعبية عند الحسانيين، مادته الأساسية الشعير ويميه الصحراويون "لوكيل لكحل "، أي الأكل الأسود.
بالإضافة إلى أكندي وأوراغ، عرف المجتمع الحساني مجموعة متعددة من الأمراض التي برع كثيرا في إيجاد أدوية ووصفات طبية شعبية للقضاء عليها أغلبها مستخلص من نباتات موجودة في البيئة الصحراوية، أو من أحجار ومعادن معينة، أو الاعتماد على اليد كالحجامة والكي والجبيرة، ومن هذه الأمراض :
‑ لحم (الحمى ): ارتفاع في حرارة الجسم.
‑ لحصر (الإمساك):وتتم مداواته بالتجرية .
تيمشي: مرض جلدي(حساسية) يحدث جراء تناول مواد غير ملائمة وتتم معالجته بطهي الترفاس (يشبه البطاطس ) مع الماء أو الحليب. تضاف إليه أمراض جلدية أخرى كبوحيمرون، لحكبكب، المرة، إيفو ...
لمحور: حرقة تصيب الحنجرة بسبب الإكثار من تناول الدهون، أو بسبب شرب الشاي مباشرة بعد أكل عينة من الأكلات كالكسكس مثلا..
التخمة: ألم يصيب المعدة نتيجة الإكثار من الأكل، أو الإهمال في خلطها ومزجها، ويتم التخلص منها بتناول مادة التغية المعروفة كثيرا بالصحراء..
وجيع الكاشوش: وهو مرض الصدر الناتج عن الإصابة البليغة بالزكام، وتتم معالجته باستهلاك لودك، وهو سنم الإبل مذابا.
الشكيكة، أو الشقيقة: صداع يصيب الرأس كانعكاس لمجموعة من الأمراض العضوية والنفسية، أو النفسجسدية/psychosomatiques
الكسور وتتم معالجتها بالجبيرة، أو التجبير: أي إصلاح العظم بعد تعريضه للكسر حتى يلتحم، وذلك باستعمال أعواد من القصب و ضمادات من الثوب، فضلا عن مواد عجينية لزجة من الدقيق وبياض البيض.
أمخسور: من أخطر الأمراض التي تصيب المرأة الحامل، إضافة إلى إيجيوي ألباس المرتبط بجهازها التناسلي.
الصاحب: وهو من الأمراض التي تصيب الحلق لدى الأطفال.
بوفالح والتكوشيم: مرضا شلل يصيبان الجسم. وقد نضيف إلى هذه الأمراض أمراض أخرى تصيب العيون وهي: أوار، الجلالة، لكويبة، والتيليس، الكاح، الرمد.. وغيرها كثير.
فالعديد من هذه الأمراض تتم معالجتها، بالإضافة إلى تناول الأعشاب ومستحضرات النباتات، عن طريق الحجامة والفصد المعروفين، وفيهما يقوم الفاصد بامتصاص الدم الملوث (الخاسر والخبيث) من مختلف أنحاء جسم المريض (الظهر، الخاصرة، الورك، ربلة الساق، أخمص القدمين، الذراعان...) وذلك بعد إحداث جرح صغير(في شكل فتق ) في الجلد بواسطة أداة حادة كالسكين مثلا.

الأنساق الموسيقية لعروض الشعر الحساني



إن الشعر الحساني (لغن) لا يزال غفلا من الدراسات المنهجية أو شبه ذلك, إذ أن جل ما ألف أو كتب فيه لا يعدو في الغالب الأعم محاولات هنا وهناك هي في مجملها أقرب إلى التدوين السردي للنصوص الشعرية منها إلى الدراسات النقدية المنهجية التي تحاول استنطاق النصوص وسبر أغوارها لإبراز خصائصها الأدبية والوقوف على مكامن الجمال الفني ومظاهر الإبداع الأدبي فيها, ومن هنا كان على كل من يمتشق قلمه ليتناول هذا الفن بالبحث والنقد أن يأخذ في الحسبان شح المصادر كمّا وكيفا, ومن هنا ـ والحالة هذه- فقد قررت في محاولتي دراسةَ هذا الموضوع أن أعتمد أسلوبا إجرائيا يتخذ من الشعر العربي الفصيح متكأ باعتباره الحاضن والرافد الرئيس للشعر الحساني, وذلك لمنافشة أسئلة من قبيل: ما هو دور الموسيقى في البناء العروضي لبحور الشعرالحساني (لبتوت)؟ وما ذا وراء تسمية هذا الفن الأدبي ب "لغن"؟ ثم ما علاقة ذلك كله باستمرار أو اندثار بعض البحور دون بعضها الآخر؟
وفي هذا الإطار, أعني بالأنساق الموسيقية لعروض الشعر الحساني ذلك التتابع النمطي المحكم لأصوات الحركات والسكنات لمختلف الحروف في الوحدة العروضية (التاقلويت), ومن أجل ذلك أقسم هذا الفن الأدبي (الشعر الحساني) إلى مركبتين اثنتين هما:
1. القلب أو المضمون
2. القالب أو الشكل
أما القلب أو المضمون فهو الرسالة التي يسعى الأديب إلى توصيلها للمتلقي وهي الهدف من وراء العملية الشعرية برمتها ـ إن صحت التسمية ـ إلا أن هذه المركبة لا تقع في دائرة هذا البحث لأن الموسيقى الداخلية للنصوص والأجراس المتولدة من استخدام الأساليب البلاغية بديعا ومعاني لا دخل لها في العروض إطلاقا.
أما المركبة الثانية فهي القالب او الظرف الذي يقدم فيه الشاعر مادته أو رسالته للمتلقي عسى أن يتقبلها بقبول حسن, ويكون حظها من القبول الحسن عادة بقدر حظها من الإنبات الحسن, و يعوِّل الشاعر في ذلك على عناصر متعددة تأتي في مقدمتها الأنساق الموسيقية بالمعنى الذي ذكرنا مشكلة إيقاعا موسيقيا يعطي لكل وحدة عروضية (تافلويت) طابعها الموسيقي الذي تميزها عن غيرها, ومن هنا تعتبر االموسيقى من أهم الدعائم اللتي يقوم عليها البناء العروضي للشعر الحساني, بل إن موسيقى الأنساق العروضية بهذا المعنى تمثل الحد الفاصل بين الشعر وقسيمه: النثر, اللهم إلا إذا أقحمنا قسرا ما يسمى القصيدة النثرية في الشعر الفصيح واتْفَيْتِيت في الشعر الحساني مع ما يترتب على هذا الإقحام من اعتساف وإجحاف بهذين الفنين (الشعر والنثر) يسيء إليهما أكثر مما يحسن ويضرهما أكثر مما ينفع, ولعل أبسط تبعات تلك العملية الجنونية ذوبان الفارق الجوهري بيهما وحينها لن يعود لدينا شعر أو نثر وإنما يصبح لدينا كائن آخر هلامي الشكل عديم المعالم والملامح. وهنا تكمن العلاقة العضوية بين الشعر الحساني والموسيقى, ممثلة في الأنساق الموسيقية اللتي ذكرنا سابقا أنها تتمثل في ذلك التتابع النمطي المحكم لأصوات الحركات والسكنات لمختلف الحروف في التافلويت, وهكذا تبعا لهذا التعريف الإجرائي تختلف الأنساق الموسيقية باختلاف أصوات الحركات والسكنات سواء من حيث عددها الكمي أوموقعها النسبي في التافلويت, ومن هنا يكون النسق الموسيقي لا يميز الشعر عن النثر فقط, وإنما أيضا يميز البحور الشعرية (لبتوت) عن بعضها البعض, فمثلا نلاحظ ان تتالي الساكنين أو "الكدعه" أو "النتره " ـ ولا أحبذ تسميته "احراش" يغير وجوده أو موقعه النسبي التافلويت من بت إلى آخر يختلف اختلافا أوجوهريا. فغياب هذه الكدعه ـ ولا تعتبر إلا إذا كانت قبل المتحرك الأخيرـ يميز لبتوت المسرومة (أي اللتي لا گدعة فيها) ويكون حينها الفارق بينها هو عدد المتحركات, ويتعلق الأمر هنا بابتوتت: لبتيت التام, التيدوم, لبتيت الناقص, حثو الجراد, احويويص, وحتى ابتوتت: 3 و 2 و 1 وإن كان لا يعتد بها , أما مع وجود هذه الـگدعة فيكون عدد الـگدعات وموقعها النسبي في التافلويت وعدد المتحركات هي العوامل المحددة للبت, فمثلا الموقع النسبي لـگدعة واحدة في تافلويت من سبعة متحركات يميز بين امريميده, بوعمران, وبت المصري كما يسميه مخترعه أو باعثه على الأقل أحمدو ولد الداه ولمن لا يعرف هذا البت فقد مثلت له بـگاف أسميته فيه ب "التعفريت" فقلت:

بت اتعفريت ذا شكلُ***سبعَ يغـــير بأربعَ
واثلاثَ فــيه ينفتلُ***في النتاقلويت بالكدعَ
فهذا البت كما يوضح الـگاف بتكون من سبعة متحركات تتوسها گدعة واحدة بعد المتحرك الرابع, أما بوعمران فتأتي گدعته بعد المتحرك الأول بينما تكون گدعتة امريميده بعد المتحرك الثاني, أما لبير فله ثلاثة أذرع هي: آگلال لبير (وهو ما تنصرف إليه تسمية لبير عند إطلاقها) وتاطرات لبير وتيدوم لبير, وأذكر مرة أنه سألني أحد أصدقائي النابهين عن الفروق بين هذه الأذرع الثلاثة فقلت له على البديهة: "احمر لبير افتاطرات والتيدوم افكصرات" فلاحظ بحسه ما لم أقصده أنا من أن هذه الجمل تمثل تافلويتين من لبير فكملهما قائلا:
لبير أخبار بعـد جات***هــاذ هي حالاتٌ
"احمر لبير افتـاطرات***والتيدوم افكصرات"
فهذا الـگاف من لبير (أگلال) الذي يتميز بـگدعة قبل المتحرك الأخير من الحمرة ويساكن ميت في ذات الموقع من الكسرة, أما تاطرات فمثالها
ماخالك نوم ألا اگـعاد***أغلان تظفــر ظالَّ
مرت بالبال إلين عـاد***فاصل فاحجاب الظالّ
ونلاحظ هنا كما بيّن صديقي في گافه أن كل تافلويت من تاطرات يمكن أن تكون حمرة من لبير. أما التيدوم فيوجد بنكهتين:
 تيدوم بنكهة لبتيت ويكون فيها مسروما أي لا گدعة فيه إلا بعد المتحرك الأخير جوازا, أي انه عبارة عن ابتيت تام ناقض متحرك واحد, ومثاله التقليدي:
من يامس هو واليوم***هون البداعّ يطم
وامنين انكال التيدوم***ويل البداع حشمُ
فمثلا إذا أبدلنا الساكن الحي الأخير بساكن ميت من تافلويت: "ويل البداع حشمُ" لتصبح: "ويل البداع حامُ" فإنها ستكون كسرة من أكلال لبير, أما إذا أضفنا له ساكنا ثانيا ليصبحا گدعة وتصبح التافلويت " ويل البداع حاشمُ" فإنها ستكون حمرة من أكلال لبير
 تيدوم بنكهة لبير ويكون فيها مسروما لا گدعة فيه مع التزام ساكن ميت واحد قبل المتحرك الأخير هو ساكن كسرة لبير ولذلك كل تافلويت منه يمكن أن تكون كسرة من لبير وهو ما قصدته أنا وصديقي في گافه السابق ومن أمثلته:
أراع بالــــوزانَ ***بت التيــدوم الوازن
كيف الـگاف الكلت آنَ***خـازن فيه اللي خازن
ومن هذه الأنساق الموسيقية التي يعود إليها وحدها التصنيف العروضي للشعر الحساني نشأت تلك العلاقة العضوية التي تربط الشعر الحساني بالموسيقى الحسانية أو لغن بالغناء, ومن تجليات هذه العلاقة ذلك الترافق المعروف بين بحور الشعر الحساني (ابتوت لغن) ومقامات الموسيقى الحسانية (اظهورت أزوان), حيث أن هناك تقابلا شيه كامل بينهما يتسايران فيه جنبا إلى جنب في ثنائيات بديعة تبدأ من ثنائية (كر,امريميده) وتواصل حتى ثنائية (بيكي,لبتيت). وربما من هنا جاءت تسمية الشعر الحساني ب "لغن".
وعندما نمتطي هذا الطرح لنناقش النشأة الأولى للشعرالحساني للبحث في إشكالياتها فإننا قد نتمكن من حل الكثير من ألغازها ونكون على بينة من الكثير مما قد نتوصل إليه من أحكام. وفي هذا الضدد, فإن أهم إشكاليات النشأة في الشعر الحساني تتمثل عندي في التساؤلين المحورية التاليين:
 كيف بدأ الشعر الحساني؟
 ماهو أقدم ما وصل إلينا من الشعر الحساني؟
وأعتقد أننا بقدر ما نساهم في الإجابة على هذين التساؤلين المهمين, نساهم في الإجابة على التساؤل الأهم: متى بدأ الشعر الحساني؟
وللإجابة على التساؤل الأول, سأكون أكثر ولاء للإجرائية اللتي اعتمدت أسلوبا من البداية وأقول إنه باستقراء الكائنات أو الماهيات الطبيعية من حولنا أو في أذهاننا نجد أنها تبدأ في نشأتها من أطوار أولية ثم تدخل بعد ذلك سلسلة من مراحل التطور والنمو حتى تكتمل بنيتها ويتم نضجها ولا أعلم لهذه القاعدة من استثناء ولا حتى الإستثناء الذي يؤكد القاعدة, بل إن عدم الإستثناء هنا هو الإستثناء الذي يؤكد قاعدة أن"لكل قاعدة استقناء يؤكدها". ومن هذا الأساس انطلق مؤرخو الأدب العربي إلى القول بأن الشعر الجاهلي لا يمثل بداية الشعر العربي وإن كان هو أقدم ما وصل إلينا منه إذ يستحيل في نظرهم ان تكون البداية من هذا المستوى الناضج الذي يتميز به ذلك الشعر, مما أسس بدوره لنظرية الإنتحال في الشعر الجاهلي. وهذا المنطلق هو ما يقعدني عن الذهاب مع الأستاذ الأديب المبدع التقي ولد الشيخ إلى القول بأن مساجلة (اكطاع) أهل الذراع وأهل آفطوط تمثل باكورة ما قيل في هذا الفن , حيث قال صاحب اهل آفطوط:
مزينْ ولْفِ تيدْ ادْمــاعْ***إلى ركبتْ فــوگْ ارْباعْ
لصْفرْ كيفْ اغزالْ اذراعْ ***تتغــزغـزْ تيشمــيتُ
كاردْ سهبْ اعـليه انباعْ***بحْمـــاه ؤتيفكشــيتُ
فرد عليه صاحب أهل آفطوطرقائلا:
مزينْ ولْفِ تيد ارْمـاشْ *** إلى ركبتْ فـوگْ آوداشْ
لحمْرْ الفي جَنبوابْـراشْ ***حــافلتُ تيـجفيـــتُ
كاردْ خطْ اعليهْ ارشـاشْ ***تتــگـاطـرْ تيكـفِّيتُ
إذ تستحيل في نظري البداية من هكذا مستوى, كما أنه ـ وفي نظري دائما ـ يتعين وجود شاعر واحد أولا ثم بعد ذلك شاعران يتساجلان أو أكثر, أما أن تكون البداية بشاعرين أو أكثر ومن هذا المستوى فتلك مسألة ربما فيها نظر.
وبعدم استثناء الشعر الحساني من هذه القاعدة يتعين علينا أن نسلم بأنه بدأ كما بدأ غيره وأن بدايته كانت كأي بدايةٍ بعيدةً عن النضج والكمال الذي تمثله هنا تلك الأنساق الموسيقية المحكمة اللتي تنتظم الشعر الحساني على النحو الذي أشرنا إليه سابقا. وبهذا الجواب على التساؤل الأول يتحدد تلقائيا الجواب على التساؤل الثاني وهو أن أقدم ما وصل إلينا من الشعر الحساني هو أبعد ما بين أيدينا منه عن الإتِّساق في تلك الأنساق الموسيقية التي اعتبرناها أهم أمارات النضج والكمال في هذا الفن, وذلك أن الشعر الحساني ما كان ليصلها قبل أن تكتمل بنيته ويقسئن عوده, وبعبارة أخرى فإن أقدم الشعر عندي هو أقربه إلى النثر باعتبار هذا الأخير سابقا تطور عنه الأول لاحقا.
وبناء على ذلك يكون الشعر الحساني بدأ مع لبتوت الميتة مثل البث الكبير وخاصة بعض نسخه البدائية مثل بت اتـگسري, والواكدي وغيرهما... حيث أن هذه "لبتوت" تتميز بضعف موسيقى ناشئ من تغير عدد المتحركات وعشوائية موقع الكدعات في التيفلواتن مما أدى إلى ضعفها الفني وتلاشيها واندثار ما قيل فيها من إنتاج هو في الحقيقة ما يمثل اليواكير الأولى للشعر الحساني. ثم أخذ ينمو ويتطور كأي كائن ناشئ آخر حتى استوى على سوقه المتمثلة في لبتوت المعروفة اليوم لدينا ويمكن القول إن سر بقائها يكمن في قوة موسيقاها العائدة اساسا إلى أنساقها الموسيقية المحكمة على النحو الذي بيّنا سابقا. وبناء على هذا التصور تكون النصوص التالية من أقرب ما وصل إلينا من الشعر الحساني إلى البدايات:
يقول أحدهم مادحا: گرْگار لشيــاخ تِينْدَكُّوتْ لبَّ***أدب وأدبهم مـا إسرح الجيهَ
يِدْبَكْ بالدبوس ما اتطيح زغبَ***لا اتمسّك غير اتم حاس بيهَ
وبكاء على الأطلال: ظـل هيكــور يوم كلف***من عـند آوكـار لادرار
ينبح الصــج ابراص كف ***كيف أثر السـيرار فيرار
وأترك للقارئ الكريم التعليق على هذه النصوص بعدِّ متحركاتها وتحديد المواقع التسبية لـگدعاتها.
وهكذا نكون قد توصلنا من خلال هذه المقاربة الإجرائية الى ان الأنساق الموسيقية تقسم الشعر الحساني عروضيا إلى ثلاث مجموعات هي:
1. مجموعة البتوت المسرومة: وهي اللتي لا توجد بها گدعة قبل المتحرك الأخير
2. مجموعة البتوت المكدوعة: وهي اللتي توجد بها گدعة واحدة على الأقل قبل المتحرك الأخير
3. مجموعة البتوت المهجورة: وتتميز بكدعات عشوائية التموقع ومتحركات غير ثابتة العدد, وتعتير هذه المجموعة بدائية ومندثرة أو في حكم المندثر نظرا لفشلها في امتحان الموسيقى وبها بدأ الشعر الحساني خطواته الأولى نحو الظهور.

تعريف الشعر الحساني

الشعر الحساني هو ذاك الكلام المنثور الذي يختاره الشاعر
ليجعل منه مادته فتراه يبرمه و يغزله و يخففه في مكان ما ، كما قد يثقله في
مكان آخر و يقدع فيه و يفلق حتى يستخرج منه ذلك الكلام المبعثر جسما
متكاملا لا يقبل النقص و لا الزيادة و يح
تل مكانه بين سائر المخلوقات لذا نجد فيه الجميل و القبيح و الطويل و
القصير ".


أغراض الشعر الشعبي الحساني نذكر من أبرزها :
1 -
ما يعتبر جائزا : و هو الذي يتميز بالتمام أي لا زيادة و لا نقصان في
أوزانه : التضمين اللزوم ، الجناس و الملخ ، الإنفاق ، اللف المرتب و كذا
اللف المعكوس و التنوين.

2 - المكروه في الشعر الحساني : الزي (
بتفخيم حرف الزاي) , و كذا دخول كلمات من غير اللهجة الحسانية لا سيما
الفصحى لأن ذلك يعتبره الشعراء ضعفا يحسب على الشاعر كما أن ذلك النوع من
الخلط في الشعر يظل غير محبوب لدى العامة .

3 - الحرام أو الممنوع
في الشعر الحساني : " أضلاع " و يقصد به عدم توافق أشطر البيت الشعري سواء
من حيث كلمات الشطر الواحد الذي يسمى " تافلويت " أو متحرك ،
أو زيادة "
تافلويت " أو نقصانها ، أو تتجاوز القافية أحمر أو عقرب أو تنقص عن ذلك
فتصبح و ترا و هو ما يعرف بأسم " لعوار " أو " العور" و ضياع المعنى .

4 - الواجب : و هو ما يعرف في الشعر الحساني باحترام القافية أو القافيتين وأن يكون
" الكاف" ( البيت الشعري ) أو "الطلعة "( القصيدة ) أو " الصبة " ( قصيدة بدون حمر ) حائزا على ش
روط ذلك، و لا يقبل فيه الوتر أي و جود الشطر الواحد المفرد .

5 -
المندوب : و هو أن تكون "الطلعة "( القصيدة ) لها "كاف" (بيت شعري) مرتبط
بها من حيث التركيب و المعنى سواء كان في مطلعها و تعطف عليه أو جاء في
النهاية لتكسر عليه ، كما يجب التنويه إلى أفضلية كتابة الشعر الحساني
بكلمات اللهجة العامية على الفصحى كمقياس جمالي في نظم هذا النوع من الشعر .

أما بحوره و أوزانه فقد مرت بمرحلتين هامتين هما :

أولا
- ما قبل الموسيقى: و هي المرحلة التي كان فيها الشعر نوع من النثر المميز
تقريبا ، حيث كانت الأبيات لا تقاس على بعضها و لا توجد فيه " الطلعة " و
إن و جدت فهي على غير قافية واحدة قد يكون لها قافيتان أو ثلاثة أو أربعة ،
و كانت أوزان " الكاف الواحد" ( البيت الشعري) تنظم على أساس الشكل أي
الفتح و الضم و الكسر و السكون ، دون الاهتمام بالحرف و ظل هكذا مدة طويلة
حتى بدأ بروز معالم مرحلة أخرى في الظهور حيث تطور الشعر في تلك لمرحلة و
أستطاع الشعراء حصر الوزن على المتحركين المتناغمين مع الموسيقى و قد نتجت
عن ذلك ميزة أخرى مهمة تمثلت في إعطاء أولوية لتساوي الأبيات و قياس بعضها
على البعض دون زيادة أو نقصان .
. مما أعطى القافية نوعا من الثبات ، حينها ظهر ما عرف لاحقا بالحمر و
العقرب و سيبقيان بصفة نهائية كأساس لا بد منه لي وزن أو نظم شعري حساني .

ثانيا
- شكل ظهور الموسيقى دفعا جديدا لتقدم الشعر الحساني و الرقي به إلى مرحلة
أكثر تقدما من سابقاتها حيث أجبر الشعراء على مرافقة النوتة الموسيقية و
كل شعر لا تتوفر فيه ميزة القابلية لمرافقة النوتة الموسيقية أصبح غير
مقبول و هنا برز الظهر الذي هو مجال عزف الموسيقى مما أدى إلى تشكل بحور
الشعر الشعبي الحساني على غرار بحور الشعر العربي المعروف و لكل ظهر ألحانه
و نغماته الخاصة كما له شعره الخاص الذي لا يمكن أن يغنى أو يلحن في ظهر
غيره و أضيفت " الطلعة " ذات الحمر الثلاثة و قننت متحركات الشعر لتصبح من
واحدة إلى ثمانية.

و للإشارة لا بد من التنويه إلى أن شعر المرحلة
السابقة لا زال معترف به و قد جمعت كل بحورها في بحر واحد سمي اصطلاحا البت
الكبير و قد كانت هناك بحور كثيرة منها : الرسم و المصارع ( بفتح الميم و
تشديد الصاد و تسكين العين ) ، و لعسير ، و أشطان و أزمول ، و التروس ، و
الواكدي ....الخ.

إلا أن التطور الذي حصل في مجال الشعر الشعبي أدى في مجمله إلى ت
جاوز الكثير من البحور و الاحتفاظ بما نعرفه الآن فقط و التي هي :

1 - بعمران : يبنى "الكاف" في بعمران على سبعة متحركات تبدأ ب : متحرك و ساكن ثم متحرك.

2
- مريميدة : و هو بحر نظمه قريب من نظم بعمران لأنه يبنى كذلك على سبعة
متحركات لكنه يختلف عنه من حيث ترتيب المتحركات لأنه يبدأ بمتحركين يليهما
ساكن و قد يبدأ بساكن.

3 - الصغير : و الذي سبق و إن اشرنا إلى
إحدى مميزاته و هي كونه لا يقاس على شطره الأول لوحده و إنما لا بد من أخذ
الشطرين الأولين ( أي الحم و الكسرة ) بعين الاعتبار لأنه يبنى على سبعة في
الشطر الأول و خمسة في الثاني و لا ينتهي إلا بسكون و له شرط ثالث يتمثل
في انه بعد كل خمسة متحركات لا بد من سكون حتما و كما أن حرفه الثالث لا بد
أن يكون ساكنا أيضا .

4- لبير : الذي يعتبر سبكه كسبك "لبتيت "
تقريبا رغم أنه ينقص عنه بمتحرك و احد حيث أن شعر بحر " لبتيت " ينظم على
سبعة متحركات و يتميز شطره الأول بما يعرف في الحسانية ب " لحراش " أما
شطره الثاني فهو مسبول (سلس) عكس الشطر الأول و هذه ميزة أخرى يمتاز بها عن
"لبتيت" و قد يتحول في بعض المواقف إلى ما يعرف " بتاطراتق " أو " مماية
لبير "
.

5 - لبتيت : و هو نوعان ، ما يعرف ب " البتيت الناقص " و هو الذي
يكتب بستة متحركات و " لبتيت التام " و الذي له ثماني متحركات ، عموما
يعتبر " لبتيت التام " الأكثر سلاسة من بين بحور الشعر الحساني لكثرة
متحركاته و أما سبب تجزئته إلى قسمين ناقص و تام فهو لأن الموسيقى تتعامل
معه على أنه كذلك ، حيث نجد اسمين مختلفين لنفس البحر و هما " أعظال " و
"بيقي".

علاقة الإنسان الصحراوي بالإبل

علاقة قديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ ويطلق على الجمل "سفينة الصحراء" وهو وصف مثالي ينطبق عليه تماما نظراً لقدراته العجيبية على تحمل المشاق وصبره على احتمال العطش في هجير الصحراء و حرها اللافح وهو يقطع الفيافى والقفار رفيقا لصاحبه في حله وترحاله

فللإبل مكانة مرموقة عند سكان الصحراء، ولا يزال لها من ذلك حظ وفير عند كثير من الناس في العصر الحاضر, وأيا كان الأمر اليوم فان أحدا لا ينسى دور الإبل التي كانت كل شيء في حياة الأجداد .. كانت مصدر الرزق .. ووسيلة المواصلات...و منبعا للفخر حيث ظلت تحتل ركناً مهماً ومكانة أساسية في الحياة السوسيو-اقتصادية للمجتمع الصحراوي. فالجمال حيوانات صبورة، شديدة التكيف والتأقلم للعيش في ظروف الصحراء القاسية وفق نظام رعوي بدائي، أو شبه بدائي و هي تتمتع بشكل عام بطبائع هادئة ذات ذكاء متميز لها خاصية فريدة حيث تعرف بالصبر والجلد وتحمل المشاق والشعور باللامبالاة عند تعرضها للعوامل المناخية القاسية حيث تستمر في عملها تحت أشد الظروف حتى الرمق الأخير

كما انها تشارك صاحبها الخوف فإذا خاف اضطربت فإذا ما شعرت الإبل بحاجة أهلها للرحيل خوفا من خطر قادم شنفت آذانها ومدت أعناقها تتحسس مصدر الخطر وجهته وأسرعت المشي في الرحيل وأحيانا تجدها تنذر أهلها بالخطر والرحيل قبل وقوعه لأنها اذا أحست به نهضت واتجهت بأعناقها في جهة العدو المهاجم فقط وتبدو عليها الاضطرابات فيدرك صاحبها أن هناك عدو قادم فيستعد له مما جعل لهذا الحيوان مكانة خاصة في حياة

2011/08/26

اللهجة الحسانية

اللهجة الحسانية هي أحد اللهجات العربية المنطوقة في الصحراء في مفهومها الجغرافي والتاريخي الواسع حيث تنتشر فضلاً عن الساقية الحمراء ووادي الذهب في موريتانيا وجنوب المغرب وجنوب غرب الجزائر وشمال مالي.

تنسب الحسانية إلى قبائل بني حسان الذين مثلوا أكثر الهجرات العربية تأثيراً في المنطقة واهبينها وجهها العربي الذي نعرفه اليوم والذين قدموا من شبه الجزيرة مروراً بصعيد مصر مع حلفاءهم من بني هلال وبني سليم ضمن التغريبة المشهورة في التراث العربي.

وقد نتج عن أمتزاج لغة العرب القادمين من الشرق مع لغة البربر من صنهاجة الملثمين من جهة والعناصر الأفريقية الزنجية تكون لهجة جديدة هي اللهجة الحسانية التي تمثل عملية انصهار ثقافي ولغوي فريد يحتوي على عناصر اصطلاحية وتركيبية وصوتية مستمدة من موروث كل تلك العناصر والمجموعات الأثنية.

وجدير بنا هنا أن نتوقف عند ملاحظة تتكرر في عظم الكتابات التي تناولت اللهجة الحسانية حيث توصف بأنها أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى وهذا القول يكون صحيحاً فقط عند مقارنتها باللهجات المغاربية كما سنرى لاحقاً.

تتميز اللهجة الحسانية بغناءها المثير بالأنماط التعبيرية الشفاهية المتنوعة ففي مجتمع الصحراء الذي تقل فيه الكتابة ووسائلها تصبح التعابير الشفهية هي وسيلة التواصل الناقلة للتجارب والحافظة للذاكرة الجمعية التي تترسخ وتتجذر من خلال جلسات السمر التي تميز ليل الصحراء الطويل حيث لاوسائل ترفيه ولاوسائط تواصل عدى الصور اللغوية المحمولة في ثنايا الذاكرة الشعبية.

وتضم اللهجة الحسانية تراث شعري غني يتصف ببحوره وتفعيلاته ومقاماته المتنوعة التي شملت جميع مناحي التعبير من غزل وفخر ومدح وهجاء ونقائض واخوانيات وغيرها، وتراث قصصي يشمل مختلف مناحي الحياة وتخدم كل مجموعة قصصية أهدافاً تربوية أو دينية أو اخلاقية مختلفة وتعتبر شخوص الرواية – هكذا تسمى الحكاية الصحراوية- ابطالاً معروفين في المجتمع يعبر بهم عن حالات حقيقية عادة ما تستذكر في المواقف النقدية على الأخص، فشرتات يرمز للنهم وتيبة رمز للبلاهة وغير هذا كثير، كما يتميز القصص الشعبي الصحراوي بصور من الخيال الجميل حيث تحمل الجمادات والحيوانات معاني رمزية وتتصف بقدرتها على الحديث والكلام على زعم انها كانت كلها ناطقة مثل الإنسان في زمن ماضي.

كما تضم اللهجة الحسانية كم كبير من الأمثال والحكم التي تتميز بارتباطها بالإنسان والأرض ونستطيع أن نتلمس نمط العيش والرؤى من خلال انعكاس البيئة الصحراوية الإجتماعية والطبيعية في ثناياها .

وفضلاً عن الجوانب الأدبية فإن اللهجة الحسانية تحمل تراثا علمياً قيماً خاصة في علوم الفلك (اسماء النجوم ومواقعها والمطالع -المنازل الفلكية- ودلالتها في فهم التقلبات الجوية) والطب والمناخ والنبات والجغرافيا والجيولوجيا في جانبها الجيومورفولجي (التضاريسي) حيث تحمل اللهجة الحسانية تصنيف تفصيلي لجميع المظاهر التضاريسية الصحراوية ويكفي هنا أن نشير إلى أن اصطلاحات مثل: القلب والكدية والقارة والظلعة والطارف والسن والطوق والزملة والحنك وألوس والزبارة كلها وصف للمرتفعات غير أن الصحراوي يفهم منها معنى دقيقا من حيث الشكل والحجم وحتى المواد المكونة له أحياناً.

المؤسف في مصير اللهجة الحسانية وهي التي حملت الموروث الثقافي الصحراوي الممتد لمئات السنين أنها لهجة شفاهية قلما تكتب مما يعني أن الموروث المنقول عبرها معرض للزوال بزوال حامليه حيث أصبح التواصل بين الأجيال أقل مما كان عليه في ظل انتشار وسائل الترفيه المعاصرة كالفضائيات والانترنيت مما يدفع الى التفكير الجاد في ضرورة تسجيل التراث الحساني وتوثيقه قبل أن نتحسر على ضياعه بين أهمال ابناءه وغزو خصومه حيث اضحى الانتشار المهول للمستوطنين المغاربة في المدن الصحراوية المحتلة عاملاً آخراً في تشويه اللهجة الحسانية تمهيداً لزوالها إذا لم تتدارك النخب الصحراوية مخاطر تشويه وزوال أهم العوامل المميزة للشخصية الصحراوية التي انصاغت في صيرورة تاريخية عبر مئات السنين.

الجزء الثاني:
------------

بعد أن عرفنا في الجزء الأول باللهجة الحسانية وتطرقنا إلى ملامح من التراث الحساني الغني بأنماطه التعبيرية التي شملت معظم الصور الثقافية الشفاهية المعروفة، نحاول في هذا الجزء استعراض بعضاً من أوصول المفردات الحسانية ثم نعرض لاحقاً بحول الله علاقة اللهجة الحسانية باللغة العربية الفصحى واللهجات العربية المنطوقة في بلدان عربية مختلفة تشابهاً وأختلافاً .

جذور اللهجة الحسانية:

أخذاً بالرأي القائل أن اللغة كائن حي يتغذى وينمو ويتكاثر ويموت أيضاً، نجد أن اللهجة الحسانية قد نمت وتطورت من خلال صيرورة تاريخية طويلة تم فيها أمتزاج وتداخل تراث فكري ولغوي ومعرفي غني لمجموعات بشرية متعددة الأصول جمع بينها الموطن الجغرافي ووحدها المعتقد الديني بعد أعتناق جميع مكوناتها للعقيدة الإسلامية، ونظراً لكون اللغة العربية هي اللغة الحاملة لرسالة الإسلام فقد شكلت الوعاء الذي أنصهرت فيه كل المعارف والمورثات الفكرية للمجموعات البشرية غير العربية ولعل هذا مايفسر الغنى الكبير بالمفردات العربية في اللهجة الحسانية دون أن نقع في التسليم بالمقولة الشائعة التي مفادها أن الحسانية أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى وهو ماسنعود لبيانه لاحقاً.

ويمكن أن نميز ثلاث أو أربع مصادر (أوصول) للمفردات الحسانية كمايلي:

1. المفردات العربية: وتقدر بعض المصادر أنها تشكل نسبة 84% من مجموع مفردات القاموس الحساني وربما كان الرقم صحيحاً في مرحلة تاريخية معينة غير أن لن يبقى ثابتاً نظراً لخاصية التطور والتأثير والتأثر الذي يميز اللغات عموماً، كما أن اتساع التمدرس وتزايد التواصل الثقافي والاعلامي مع العالم العربي وانتشار التلفاز والراديو والتأثير الواسع في تشكيل الصورة الثقافية للمجتمع الصحراوي بفضل برامج الإذاعة الوطنية الصحراوية طوال العقود الثلاث السابقة، كل هذه العوامل أثرت ولاريب في زيادة المفردات العربية واتساع استعمالها في اللهجة الحسانية ولعل هذا مايفسر ظهور " لغة" ثالثة وسط بين الفصحى واللهجة الحسانية. ومن الطبيعي أن لانحتاج لإعطاء أمثلة للمفردات الحسانية ذات الأصل العربي فهي أوضح من أن نمثل لها.

2. المفردات البربرية: ولعل أغلبها من لغة الملثمين من صنهاجة أكبر المجموعات البربرية التي انتشرت في الصحراء الغربية قبل موجة الهجرات العربية ونشير هنا إلى رأي الباحث الليبي د.علي فهمي خشيم الذي خلص في دراسة مقارنة في اللسانيات إلى أن اللغة البربرية والمصرية القديمة هي لغات عربية الأصل. وقد سبق للنسابة العربي ال***ي أن نسب صنهاجة إلى حمير من القبائل اليمانية، وفي ذلك يقول شاعرهم:

قوم لهم نسب العلياء من حمير وإذا قيل صنهاجة فهمو همو
لما حووا فخار كل عظيمة غلب الحياء عليهم فتلثموا

ونجد في اللهجة الحسانية نسبة لابأس بها من المفردات البربرية وخاصة في أسماء أغلب المناطق الجغرافية الصحراوية مثل "أغيلاس" ومعناه الشبل و"أغزومال" ومعناها الأسد و"تاغزومالت" ومعناها "اللبؤة" وأدرار" ومعناها الجبل و"إمليلي" ومعناها الأبيض ونجد التشابه بين هذا الأخير و"أمليلة" المستعمرة الاسبانية شمال المغرب و"عين أمليلة" المدينة الجزائرية المعروفة، ومثل "تيرس" و"زمور" و"ميجك" و "أوسرد" و"تفاريتي" وغيرها كثير. كما نجد المفردات البربرية في المفردات المتعلقة بالإنسان في مراحله العمرية المختلفة مثل "إشير" للطفل الصغير و"تيشيرت" ومعناها طفلة و"أفكراش" ومعناها فتى و"أرغاج" ومعناها إنسان كما هو معروف.

3. المفردات الزنجية (الأفريقية): وهي أقل من سابقاتها وتتزايد في اللهجة الحسانية المنطوقة في المناطق القريبة من المجموعات الزنجية (جنوب وشرق موريتانيا) ونجدها في الصحراء الغربية في بعض الأسماء مثل "المامي" وتعني الإمام أو الشيخ أي رجل الدين وأسماء مثل "ديدي" و"بلاهي" و"ممدو" وغيرها كما ترد في اسماء بعض الأطعمة مثل "غرتا" أي الفول السوداني و"ك***************"أو "الك***************ي" الطعام المعروف و"بيصام" وهو الوردة الفرعونية أو الكركدي وغيرها ولعل أسماء بعض الأدوات الموسيقية أفريقية الأصل أيضاً.

4. المفردات الأوروبية (الاسبانية والفرنسية): وهي مفردات تسربت خلال الحقبة الاستعمارية ونجد أن بعض هذه المفردات حرفت حتى يصعب تبين أصلها الأجنبي ومن أمثلة الكلمات الأجنبية واسعة الاستعمال في اللهجة الحسانية المعاصرة كلمات "وتة" بمعنى سيارة و "لامبة" وهي المصباح و"مرتيو" أي المطرقة و"بالا" ومعناها مجرفة و"الكوزينة" أي مطبخ وغيرها.

وليس هذا فحسب بل نجد في اللهجة الحسانية بعض المفردات ذات الجذور الفرعونية أي المصرية القديمة كما سنرى لاحقاً.

الجزء الثالث:
------------

نواصل في هذا المقال تتبع بعض الخصائص المميزة للهجة الحسانية ونحاول هنا بيان بعض أوجه التباين بين اللهجة الحسانية واللغة العربية الفصحى تاركين تعليل هذا الاختلاف وتتبع مسار تطور البنى النحوية والتركبية والصوتية والدلالية في اللهجة الحسانية لدراسات مستقبلية نتمنى أن يتحفنا بها المتخصصون في علم اللسانيات من المهتمين بهذه اللهجة الغنية بتراثها الفكري والحاملة لرؤى وتصورات ومشاعر أجيال عدة في الصحراء الغربية والشقيقة موريتانيا وماجاورهما.

بين اللهجة الحسانية واللغة العربية الفصحى:

يعرف معظم الدارسين اللهجة الحسانية كإحدى اللهجات العربية وهو تعريف صحيح في عمومه وقد بينا في الجزء الثاني من هذه المقالات أن اللهجة الحسانية ذات جذور متعددة عربية وبربرية وزنجية وأوروبية وغيرها كما تتميز بخائص لغوية مميزة لها، و على الرغم من المحتوى الهائل من المفردات والتراكيب اللغوية العربية العديدة في اللهجة الحسانية فإن هذه التراكيب والصيغ اللغوية قد تتطابق مع أوصولها العربية وقد تتغير بل وتكتسب خصائص نحوية ودلالية مغايرة لجذورها العربية مما يعطي للحسانية خصائص وتفرد تحتاج إلى دراسة معمقة – ليس هذا المقال بلا شك بمجال كافي لإفاءها حقها- وقد تكون هذه المقالات دعوة للتفكير فيها.

ومن البداهة أن أوجه التشابه بين اللغة العربية واللهجة الحسانية أكثر و أوضح من أن نتوقف عندها ولذا فإننا نتوقف هنا عند صور من أوجه التباين بينهما:

1. تسكين أوائل الكلمات:

يبدأ عدد كبير من الكلمات الحسانية بحرف ساكن حتى لو كانت أوصولها عربية مثل: محمد(بتسكين الميم الأولى) وقد يكتبها البعض "أمحمد" تمييزاً لها عن اسم محمد بضم الميم الأولى، ومثل "طبل" بتسكين الطاء في حين أن كلمة "طبل" بطاء مفتوحة كما هو معلوم ومثل كلمة "كراع" بتسكين الكاف أيضاً والكلمة فصيحة وتلفظ بضم الكاف لاتسكينها، جاء في الحديث الشريف "‏لو أهديت لي ذراع لقبلت ولو دعيت إلى ‏ ‏كراع ‏ ‏لأجبت".

والعرب لايسكنون أوئل الكلمات أي أنهم لايبدأون الكلمة بحرف ساكن بل تظهر على الحرف الأول أحدى الحركات المعروفة (الفتحة أو الضمة أو الكسرة)، حتى أن الشيخ محمد البشير الأبراهيمي كان يكتب كلمة "فرنسا" هكذا "إفرنسا" لأن اسم فرنسا يبدأ بحرف ساكن في اللغة الفرنسية.

2. تسكين الحرف الذي يلي لام التعريف:

وهو شبيه بسابقه غير أن الحرف الساكن هنا يقع بعد أداة التعريف ويلاحظ هنا أن الحرف المشدد بعد اللام الشمسية يسكن ويفقد خاصية التشديد بخلاف اللغة العربية الفصحى حيث يكون الحرف الموالي لأداة التعريف متحركاً (يحمل أحدى الحركات) ويكون الحرف الموالي للام الشمسية مشدد دائماً.

ففي اللهجة الحسانية تلفظ كلمة "السحاب" و"التمر" و"الشهر" بتسكين الحاء و التاء والشين على التوالي دون تشديد هذه الحروف بينما تكون كلها مفتوحة ومشددة في أصلها العربي كما هو معلوم.

3. أختلاف تصريف الفعل مع بعض الضمائر:

قد يكون اختلاف اللفظ فرقاً سهلاً غير أن اختلاف تصريف الفعل مع الضمائر هو أختلاف بين وعميق بلاريب بين اللهجة الحسانية واللغة العربية المعروفة لنا.

فإذا كنا نقول في اللغة العربية: أنا أكتب وأنت تكتبين وهم يكتبون.

فإننا نقول في اللهجة الحسانية الأفعال نفسها كما يلي: أنا نكتب وأنت تكتبي وهوما (هم) يكتبو.
وقس على ذلك جميع الأفعال.

4.أختلاف صيغ الجمع:

توجد في اللهجة الحسانية صيغاً للجمع تختلف بصورة كاملة عن صيغ الجمع في اللغة العربية للمفردة ذاتها فتجمع كلمة امرأة على نساء ونسوة أما في الحسانية فجمع امرأة هو "عليات" (بتسكين العين أيضاً)، وتجمع كلمة أم على صيغة "أمات" للإنسان والحيوان بخلاف اللغة العربية حيث يكون جمع أم للإنسان هو أمهات. ورد في الحديث الشريف "الجنة تحت أقدام الأمهات"، ويجمع طفل في الفصحى على صيغة أطفال بينما في الحسانية تجمع كلمة طفل على صيغة "تركة" ولعل الكلمة هنا مشتق من كلمة "التركة" أي ما يتركه ويخلفه الإنسان بعد موته وتجمع كلمة كأس على صيغة "كيسان" بخلاف الشائع من لغة العرف حيث تجمع على صيغة كؤوس مثل فأس وفؤوس ورأس ورؤوس وغير هذا كثير.

5.أختلاف دلالة الكلمة الواحدة في العربية والحسانية:

والمقصود هنا أن ترد الكلمة ذاتها بمعنيين مختلفين تماماً بحيث لوسمعها العربي الذي لايعرف الحسانية لفهم منها غير مايفهم العارف باللهجة الحسانية ولعل هذا ما يشكل صعوبة اضافية على اخواننا العرب في فهم اللهجة الحسانية.

مثل كلمة "غليظ" التي تعني في اللغة العربية خشن أو فظ أو جلف قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم "فبما رحمة من الله لنت لهم ولوكنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك" والكلمة بجميع معانيها تحمل معنى سلبياً بينما نجد في اللهجة الحسانية أن كلمة "غليظ" تحمل معنى ايجابياً فهي عبارة مديح فتقول" فلان رجل غليظ" أي أنه مترفع عن الدنايا وفي الشعر الحساني يقول القائل:

لحق للي ماهو كهان ****** من لعرب لغلاظ أهل الشأن

والمعنى التقريب لهذا البيت هو
:
أبلغ من ليس بكاذب من العرب الأباة ذوي الشأن والمكانة

وكذلك كلمة "السحاب" فهي في اللغة العربية مرادفة لكلمة "الغيوم" أما في الحسانية فتعني المطرنفسه فنقول "جات السحاب" أي جاء أو نزل المطر.

ومن الأمثلة في هذا السياق كلمة "بائقة" وتعني المصيبة أو الكارثة والشاهد قول الشاعر محمود سامي البارودي متذكراً بلاده بعد أن نفي إلى جزيرة سرنديب (سريلانكا الحالية):

ياروضة النيل لامستك بائقة ****** ولاعدتك سماء ذات أغداق

وتوجد بهذا المعنى كلمة "بايقة" حيث تلفظ القاف هنا مثل الجيم المصرية وللكلمة في الحسانية معنى أخر هو "كثير" فنقول "بايقة من السكر" أي كثير من السكر وبايقة من الخلق" كثيرمن الناس.

ومن المناسب هنا الإشارة إلى خصيصة أخرى من خصائص اللهجة الحسانية هي قلب همزة الوسط ياءً كما في المثال السابق فيقال "ذيب" في كلمة "ذئب" و" بير" في "بئر" و"مايل" في كلمة "مائل" ...الخ و لهذا مايماثله في بعض اللهجات العربية.

وكذلك كلمات من قبيل" القعود" فهي في العربية ابن الناقة (صغير) وفي الحسانية تعني الفحل (الكبير) و"العيش" وهو عند العرب يعني "الخبز" وفي الحسانية يعني " العصيدة" و"الساحل" أي ساحل أو شاطئ البحر ومنه مصطلح "الساحل" المستعمل في الجغرافية السياسية المعاصرة والذي يعني دول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى على أعتبار أن الصحراء الكبرى بحر من الرمال وفي الحسانية كلمة "الساحل" تعني "الغرب" الجهة الجغرافية المعروفة وكلمة "الزمان" أي الوقت بينما في الحسانية كلمة "زمان" تعني "قبيلة" وهي كلمة متقادمة قل استعمالها وإن كانت تتكرر في الشعر الحساني القديم.

6. تصغير الكلمات:

وتصغير الكلمات يحمل دلالة التحبب والتلطف وهو معروف في اللغة العربية ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:

وغاب قمير كنت أرجو غيابه ***** وروَح رعيان ونوَم سمر

وكذلك البيت الشائع عندنا لعبد الرحيم البرعي:

أهاب سحيراً بالفراق مهيب ****** فلباه وجداً في الحشا ولهيب

ولكن التصغير نادر الإستعمال في اللغة العربية وتكرر كتب النحو الأمثلة ذاتها تقريباً أما في اللهجة الحسانية فإن التصغير شائع وواسع الإستعمال مما يمثل إثراءً للقاموس الحساني من خلال مضاعفة عدد المفردات ويلعب هنا دوراً تقييماً يبين حجم الجسم المصغر فنقول"واد" ونصغره على صيغة "أودي" فيفهم السامع أن المقصود وادي صغير أو ضيق المجرى وقس على ذلك.

7. قلب القاف غيناً والعكس:

وهو أمر شائع في الحسانية فنجد هذا الخطأ حتى في النصوص المكتوبة دون مراجعة فيقولون "غرير العين" في "قرير العين" والبلغان" في كلمة "البلقان" و"القروب" في كلمة "الغروب"
وغيرهذا كثيروهذه الظاهرة اللغوية لا تنفرد بها اللهجة الحسانية بل توجد في بعض البلدان العربية كبعض مناطق اليمن والسودان.

8. أختلاف لفظ بعض أسماء العلم الأجنبية:

بعض أسماء العلم الأجنبية تلفظ في اللهجة الحسانية بصورة تخالف ماهو مستعمل في اللغة العربية المعاصرة وأذكر هنا مثلاً أن العرب والمشارقة منهم على الأخص يلفظون ويكتبون كلمة "أسبانيا" هكذا في حين يلفظها الصحراويون "إسبانيا" وكذلك "أفريقيا" والتي تلفظ عندنا وتكتب "إفريقيا".

وأذكر أنني كنت قد كتبت هاتين الكلمتين كما يكتبهما عرب المشرق في مقالة حول تاريخ الصحراء الغربية نشرت في موقع "صدى الصحراء" فكتب إلي الأخ الفاضل مصطفى الكتاب متسائلاً عن دليل صحة ما يكتبه العرب وخطأ مانكتب نحن، فلم أجد الدليل وعدت إلى كتابتهما كما تلفظان في اللهجة الحسانية.

وهكذا نرى من خلال الأمثلة المعروضة تميز اللهجة الحسانية ببنى تختلف عن اللغة العربية مما يمثل حالة جديرة بالدراسة والتأمل.

الجزء الرابع:
------------

نكمل في هذا الجزء الأخير هذه النظرات في اللهجة الحسانية ونحاول فيه ايضاح بعد صور التقارب بين اللهجة الحسانية وبعض اللهجات المنطوقة في الدول العربية، وهو موضوع نتمنى أن يثير شهية الباحثين صحراويين وعرب إلى المزيد من الدراسات في هذا المبحث القيم.

اللهجة الحسانية واللهجات العربية:

اللهجة كأسلوب تواصل مبسط ومشترك بين أفراد مجموعة ما تعتبر أصدق وأدل عناصر تميز هذه المجموعة، إذ أن اللهجة (دون اللغة) هي أنعكاس لخصائص جغرافية وأثنية وتاريخية تشكل معاً شخصية مميزة لهذه المجموعة البشرية.

وقبل اعطاء أمثلة لأوجه التشابه بين الحسانية وشقيقاتها من اللهجات العربية سيكون من المفيد استدعاء التاريخ لتفسير هذا التشابه ومحاولة ولوج مدخل جديد لفهم اللهجة (اللغة) من خلال اعادة قراءة التاريخ وربما الأنساب والسلالات أيضاً.

يصف العالم الجغرافي والرحالة الأندلسي الحسن الوزان المشهور باسم " ليون الأفريقي" في كتابه "وصف أفريقيا" بصورة تفصيلية رحلة عرب المعقل ومنهم بنو حسان الذين تنسب إليهم اللهجة الحسانية وحلفاءهم من بني هلال وبني سليم من موطنهم بنجد ومكوثهم الطويل بصعيد مصر ثم هجرتهم إلى بلاد المغرب العربي واستقرارهم في الصحراء الغربية وموريتانيا، وهو الموضوع الذي خصه بتحليل معمق الباحث الإسباني المتخصص في الصحراء الغربية كارو باروخا ضمن دراسة نشرتها مجلة "افريقيا" الصادرة في مدريد.

ونستطيع أن نتتبع انعكاس هذه الرحلة التاريخية في التشابه، بل والتطابق أحياناً بين اللهجة الحسانية واللهجات العربية خاصة في الجزيرة العربية (نجد والخليج العربي) وفي مصر تحديداً.

وقد نعتبر بعض الكلمات خاصة باللهجة الحسانية لعدم تداولها في اللغة العربية الفصحى ثم نتفاجأ وتعلو محيانا ابتسامة أندهاش حين نسمعها من أناس تفصل بيننا وبينهم ألاف الأميال وسأعرض هنا نماذج لتلك الكلمات والتعابير المتطابقة:

- الحسانية ولهجة أهل نجد والخليج العربي:

نقول في الحسانية كلمة "يزدح" بتشديد الزاي أي يتمدد ونقول "يشعبط" أي يتعلق فوق شيئ ما أويتسلق وقد وردت هاتين الكلمتين بصورة "يسدح" و"يتشعبط" بنفس المعنى المعروف لنا في الحسانية في رواية "بنات الرياض" للكاتبة السعودية رجاء الصانع الصادرة عن دار "الساقي" ببيروت سنة 2005م، على لسان ابطالها النجديين.
كما يكثر في لهجتهم تعبير "أمسيكين" للتعبير عن الشفقة على شخص ما وهو التعبير نفسه المستعمل في اللهجة الحسانية لفظاً ومعنى.
كما نجد في بعض اللهجات الخليجية تحويل حرف الجيم إلى ياء فيقولون في كلمة "مسجد" لفظ "مسيد" وفي الحسانية نجد أن كلمة "مسيد" هي المصلى وعندنا ثلاثة مناطق تحمل كل منهم اسم "لمسيد" الأولى الواحة الواقعة قرب مدينة العيون والثانية واقعة بين العيون وبوجدور والثالثة إلى الشمال الشرقي من بلدة الحكونية ضمن المنطقة التي اقتطعتها اسبانيا من الصحراء الغربية والحقتها بالمغرب عقب تحالف النظام المغربي مع اسبانيا وفرنسا ضد المقاومة الصحراوية ضمن مؤامرة "ايكوفبون" سنة 1948م.
ومن الكلمات المتطابقة بين الحسانية واللهجات المنطوقة في منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي مثلاُ لا حصراً "الخلفة" وتعني الناقة الحلوب و"الفريق" بمعنى المخيم أو الحي بلفظ القاف جيماً في بعض لهجاتهم وجيماً مصرياً في الحسانية وبعض اللهجات العربية ومن أمثلة الكلمات المتطابقة كلمات الخاطر والخيمة والشكوة والقربة والراحلة ولكطاع (بنفس الكاف) وكلمة الكاف(بكاف معجمة) وان اختلفت الدلالة قليلا، كما يشير الأستاذ عبد الله ولد بونا.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى الملاحظة القيمة التي أوردها الأخ محمد فاضل عن انتشار العنعنة في اللهجات المنطوقة بين العرب المنتشرين حول مكة عند بدء الدعوة الاسلامية، حيث تنطق هذه القبائل الهمزة عيناً ونستذكر مثيلاتها في لهجتنا الحسانية - وهو مانعتبره خطأ شائعا- مثل المعتمر (المؤتمر ) والقرعان ( القرآن ) وقولنا : قلت لك عن فلان ( قلت لك أن فلان .. ) وغيرها.
ويمكن هنا أن نضيف الملاحظة التي أوردناها في جزء سابق من هذه المقالات عن قلب همزة الوسط ياءً في الحسانية وهو مايتم في بعض اللهجات العربية فيقال "بير" في بئر و"ذيب" في كلمة ذئب وغيرها كثير.
بين الحسانية واللهجة المصرية:
وقد يكون من المفهوم تشابه الحسانية باللهجات العربية في الخليج العربي لأنها لهجات بدوية ولكن المتمعن في اللهجة الشعبية المتداولة في مصر يسترعي انتباهه كم معتبر من الكلمات والتعابير التي نعتبرها "حسانية" ومنها:
كلمة "زكيبة" وهي الكيس الكبير أو الشوال فنقول زكيبة من السكر وزكيبة من القمح وتلفظ في الحسانية بكاف تشبه الجيم المصرية في حين تلفظ في مصر بكاف عادية.
وكلمة "ضلفة" أي قطعة الخشب ونلفظها في الحسانية "ظلفة" بإبدال الضاد ظاءً ، وكذلك كلمة "فز" وهي فعل أمر بمعنى أنهض سريعاً وهي متطابقة في اللهجة المصرية والحسانية لفظاً ومعنى ويقول المثل الحساني "التخمام ألا فزات نارب" أي أن الخواطر والأفكار تأتي فجأة.
ومن الكلمات الحسانية المستعملة في مصر كلمة " بح" بفتح الباء وهو تعبير يقال للأطفال بمعنى أنتهى أو لم يعد موجوداً وعادة في إشارة إلى الطعام، والغريب أن هذه الكلمة التي وصفتها آنفاً بالحسانية هي كلمة من اللغة الفرعونية القديمة.
ومن التعابير المتطابقة لفظاً ومعنى في الحسانية والمصرية القول" فلان يتحلف في فلان" بمعنى يتهدده أو يتوعده وكذلك نجد تعبير "بالناقص منه" وهو تعبير عن التضايق من شيء ما ونستبدل الصاد بالسين في الحسانية.
ومن الطريف هنا أن نشير إلى أن التعبير المصري الشائع" يخرب بيتك" ماهو إلا التعبير الحساني المعروف لنا " يخلي خيمتك" المتداول بكثرة ولايفوت القارئ أن اللهجات العربية في المنطقة المغاربية لاتستعمل هذا التعبير أو مايشابهه.
وأخيراً هذه بعض النظرات في اللهجة الحسانية أتمنى أن تدفع المهتمين بالتراث الحساني و باللهجات العربية الى المزيد من الدراسة لهذه اللهجة الغنية بصورها وتعابيرها وبناها المميزة والتي هي بلاجدال واحدة من أهم صور تميز المجتمع الحساني (البيضاني) المتميز عن جيرانه في المنطقة المغاربية وفي المغرب الأقصى على وجه أخص والمرتبط بجذوره التاريخية في الجزيرة العربية وصعيد مصر كما يظهر من الدلالة اللغوية لعدد كبير من التعابير والكلمات الحسانية.
و قد وجه الأخوان محمد أحمد ومحمد هلاب دعوة صادقة لتدوين التراث الحساني وهي فكرة تستحق التشجيع غير أن الأداب الشفاهية ينبغي أن تحفظ في صورة ملفات صوتية فالحسانية كلهجة شفاهية تفقد الكثير من خصائصها حينما تكتب.
وادعو من هنا إلى إطلاق مشروع تسجيل التراث الحساني (شعر، أمثال وحكم، قصص، ألغاز ...الخ) في صورة ملفات صوتية على أن يبدأ بصورة فردية من طرف كل من يهتم بهذا التراث في انتظار أن يتم تبني هذا المشروع من طرف جهة قادرة على انجازه بصورة أكاديمية ولإن الانتظار قد يطول وحاملي هذا التراث من كبار السن يتناقصون مع الزمن للأسف فينبغي الانطلاق فيه بصورة فردية دون ابطاء على أن يتم لاحقاً جمعها وفهرستها وإكثارها لتمكين الباحثين والمهتمين من الحصول على نسخ منها.
الشكر الجزيل للسادة الأفاضل عبد الله ولد بونا ومحمد فاضل ومحمد أحمد ومحمد هلاب الذين أثروا هذه المقالات بأراءهم وافكارهم القيمة وكذلك الأخ الفاضل مروان سوداح من الأردن الشقيق ونعده بدراسة تحت الأنجاز حول الأثار وتأريخ ماقبل التاريخ في الصحراء.

الإمام الشافعي رحمه الله

أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ (150 هـ/766 م - 204 هـ/820 م)، أحد أبرز أئمّة أهل السنة والجماعة عبر التاريخ، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلاميّ. كما ويُعَدّ مؤسّس علم أصول الفقه، وأول من وضع كتابًا لإصول الفقه سماه "الرسالة". وهو مجدد الإسلام في القرن الثاني الهجري كما قال بذلك أحمد بن حنبل[1]، كما بشّر به رسول الإسلام محمد[2]: « في قولهلا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرض علماً» [3]، حيث قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد الإسفراييني: لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي 
اسمه ونسبه وعائلته
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع بن سائد بن عبد الله بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطّلبي الشافعي الحجازي المكّي[5]. يلتقي في نسبه مع النبي محمد في عبد مناف بن قصي.
وأما نسبه من جهة والدته، ففيه قولان، أما الأول فأن اسمها فاطمة بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كما جزم به سليمان الجمل[6]، بينما اعتبر الرازي والبيهقي وفيرهما أن هذا القول ضعيف وأن الصواب والأشهر هو القول الثاني وهو أنه امرأة أزدية من الأزد من اليمن[6][7].
أما زوجته فهي حميدة بنت نافع بن عبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان ومن أولاده منها أبو عثمان محمد بن محمد بن إدريس، وهو الأكبر من ولده وكان قاضيًا بمدينة حلب وله ابن آخر يقال له الحسن بن محمد بن إدريس مات وهو طفل وهو من سريته. وللشافعي من امرأته العثمانية بنتان فاطمة وزينب
مولد ونشأته
ولد سنة 150 هـ (وهي السنة التي توفّي فيها أبو حنيفة) في حيّ اليمن في غزة[8][5]، وقيل في عسقلان[9]. مات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه، فنشأ بها فنشأ بمكة وقرأ القرآن
وهو ابن سبع سنين وأقبل على الرمي حتى فاق فيه الأقران وصار يصيب من عشرة
أسهم تسعة، ثم أقبل على العربية والشرع فبرع في ذلك وتقدم، ثم حبب إليه الفقه[5]، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة
 
طلبه للعلم وأسفاره
في مكة المكرمة
كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، حتى قال له رجل ذات مرة: «رجل من قريش ثم ابن المطلب رضي من دينه ودنياه أن يكون معلمًا ما الشعر هل الشعر إذا استحكمت فيه إلا قصدت معلمًا تفقّه يعلّمك الله»[9]، فتأثر الشافعي بكلامه وعزم على التوجه لتعلم الفقه فقرأ على ابن عيينة، ثم جالس مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة (والذي أخذ عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، منهم: عمرو بن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم[4])، فأخذ عنه الفقه، حتى أذن له بالإفتاء وهو في سن العشرين[8]. كما وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، عن شبل، عن ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله[4]. وفي تلك المدة لزم الشافعي قبيلة هذيل والتي كانت أفصح العرب وكان يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويحفظ أشعارهم حتى قال الأصمعي عنه: «صحّحتُ أشعار هُذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس»[8].
يقول الشافعي عن نفسه: «أقمت في بطون العرب عشرين سنة أخذ أشعارها
ولغاتها، وحفظت القرآن فما علمت أنه مرّ بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه
والمراد»[5].

رحلته إلى المدينة المنورة
اشتهر اسم مالك بن أنس في زمن الشافعي وتناقل الناس كتابه الموطأ[10]، فأراد الشافعي أن يرحل إلى المدينة المنورة للأخذ عن مالك العلم، فكان أول ما فعله هو حفظ الموطأ، فحفظه في تسع ليالٍ، ثم قصد بعدها المدينة المنورة وهو يومئذ اثنتي عشرة سنة[9] وقيل: عشرين سنة[8]، فقدم على مالك ومعه توصية من والي مكة إليه، فقرأ عليه الموطأ، فأعجب به وبقراءته فلازمه الشافعي حتى وفاة مالك سنة 179 هـ. قال عنه الشافعي: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنّ عليّ من مالك بن أنس. مالك بن أنس معلمي وعنه أخذت العلم"[11]. وفي الوقت نفسه أخذ عن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وغيرهم[10].
 رحلته إلى اليمن
بعد وفاة مالك بن أنس عاد الشافعي إلى مكة، وصادف قدوم والي اليمن إلى مكة، فطلب من الشافعي أن يذهب معه للعمل في نجران في اليمن، فذهب معه وأصبح والي نجران، فحكم فيهم بالعدل، فوجد معارضة من الناس حتى وشوا به ظلمًا إلى الخليفة هارون الرشيد أنه يريد الخلافة[4]، فأرسل في استدعائه سنة 184 هـ، لكنه لما حضر بين يدي الخليفة في بغدادأحسن الدفاع عن نفسه بلسان عربي مبين، وبحجة ناصعة قوية؛ فأعجب به الخليفة، وأطلق سراحه[10].
رحلته إلى بغداد
بقي الشافعي في بغداد، والتقى بمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة فاستفاد منه وأخذ عنه العلم حتى قال: «حملت عن محمد بن الحسن وَقر بعير، ليس فيه إلا سماعي منه»[8]. وقد بقي في ضيافة محمد بن الحسن مدة من الزمن نحو سنتين عاد بعدها إلى مكة[4]. انتقل بعدها الشافعي إلى بغداد وقدمها للمرة الثانية سنة 195 هـ حاملاً كتبًا حاويةً للمناهج والقروع التي استنبطها[8]، فاجتمع به جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، والزعفراني، وغيرهم[4].
وأخذ يملي هذه الكتب على تلاميذه، فدوّنوا "الرسالة" و"الأمّ"، وقد كتبها
تلميذه الزعفراني. وبقي ينشر العلم مدة سنتين، حتى شاع ذكره فسمي بـ "ناصر
الحديث"[5]. عاد بعدها إلى مكة، ثم رجع إلى بغداد للمرة الثالثة سنة 198 هـ مكث فيها عدة أشهر.

رحلته إلى مصر
بعد ذلك خرج الشافعي إلى مصر سنة 199 هـ وحينما خرج من العراق قاصدًا مصر قالو له: أتذهب مصر وتتركنا فقال لهم: هناك الممات. وحينما دخل مصر أقام في الفسطاط واشتغل في طلب العلم وتدريسه، وفي تلك المدة غيّر الشافعي الكثير من اجتهاداته وأملى من جديدٍ كتبه على تلاميذه في الفسطاط مجدِّدًا لآرائه، وقد خالف بعضها وأقرّ أكثرها[8].
وكان رَاويته لهذه الكتب الجديدة هو ربيعة بن سليمان المرادي. وصار
للشافعي بهذا نوعان من الكتب؛ أحدهما: كتبه التي بالعراق، وهي القديمة،
والأخرى بمصر وهي الجديدة. ولهذا قال بعضهم: إنّ له مذهبين: أحدهما قديم،
والآخر جديد.

مصنفاته
  • كتاب الأم.
  • الرسالة في أصول الفقه، وهي أول كتاب صنف في علم أصول الفقه.
  • اختلاف الحديث.
  • مسند في الحديث، سمي بـ "مسند الشافعي".
  • أحكام القرآن.
  • الناسخ والمنسوخ.
  • كتاب القسامة.
  • كتاب الجزية.
  • قتال أهل البغي.
  • سبيل النجاة.
  • ديوان شعر، طبع العديد من الطبعات، منها طبعة بعناية عبد الرحمن المصطاوي، وطبعة بعناية إميل بديع يعقوب، وطبعة بعناية صالح الشاعر.

الرسول محرر العبيد

انطلقت "ثويبة" جارية أبي لهب إلى سيدها تبشره بمولد ابن أخيه "محمد" صلى الله
عليه وسلم . طغت السعادة على قلب العم بمولد اليتيم ليكون عوضا لبني هاشم عن
موت أبيه عبد الله قبل ذلك بأسابيع . و لم يجد "أبو لهب" ما يكافئ به "ثويبة"
على تلك البشرى السعيدة سوى أن يُعْتقها (1) .


وهكذا كان مجرد مولده الشريف سببا في تحرير تلك السيدة التي أرضعته فترة قبل أن
تتولى السيدة "حليمة السعدية" تلك المهمة النبيلة .. وتلك إشارة واضحة إلى أن
المولد الشريف كان إيذانا ببدء عملية "التحرير" الكبرى للبشر – كل البشر– من
العبادة والعبودية لغير الله الواحد القهار . وقد ورث صلى الله عليه وسلم عن
أبيه جارية واحدة هي حاضنته "أم أيمن" (2) . وفور بلوغه مبلغ الرجال أعتقها
عليه السلام ، وزوّجها من مولاه زيد بن حارثة الذي أعتقه هو الآخر كما سيأتي .
وكان يحسن دوما إلى ثويبة وأم أيمن ، ويقول عن الأخيرة : "هذه بقية أهل بيتي" .


وكانت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها ترسل الطعام والشراب إلى "ثويبة" مرضعة
زوجها . كما كانت أم أيمن تحتد أحيانا في حديثها معه - بما لها عليه من حق
لحضانتها اياه من قبل - فما كان عليه السلام يزيد على الابتسام .. وثبت أنه صلى
الله عليه وسلم قال : "من سرّه أن يتزوّج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن"
، فتزوجها زيد بن حارثة ، وولدت له أسامة بن زيد حبيب الرسول صلى الله عليه
وسلم .


وأورد ابن سعد في الطبقات الكبرى كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
لأم أيمن : "يا أمّه" (3) .. أي تشريف وأي مقام رفيع بلغته جارية في أمة من
الأمم مثلما بلغت أم أيمن رضي الله عنها ؟ لقد رفعها النبي عليه السلام إلى
مقام أمه ، فهل هناك من هي أرفع منزلة من أم سيد ولد آدم أجمعين ؟!! . وهناك
أيضا كرامة من الله للسيدة أم أيمن رضي الله عنها . فعندما هاجرت أصابها عطش
شديد في الطريق ولم يكن معها ماء ، وكانت صائمة ، فنزل عليها من السماء دلو
أبيض ممتلئ بالماء فشربت منه حتى رويت .. وكانت تقول : ما أصابني بعد ذلك عطش –
بسبب الماء الذي نزل عليها من السماء – ولقد كانت تصوم في الأيام الشديدة الحرّ
فما تشعر بعطش بعد تلك الشربة المباركة . والقصة أوردها ابن سعد في ترجمة أم
أيمن . وكان الرسول يداعبها ، قالت له يوما : احملني – أي أعطني ناقة أركبها
وأتنقل عليها ، فرد عليه السلام : "أحملك على ولد الناقة" قالت : يا رسول الله
إنه لا يطيقني ولا أريده . قال : "لا أحملك إلا على ولد الناقة" . علق ابن سعد
قائلا : "يعني أنه كان يمازحها ، وكان النبي عليه السلام يمزح ولا يقول إلا حقا
، والإبل كلها ولد النوق" . انتهى .


وكان النبي يرضيها كما شاءت ، ومن ذلك أنه بعد فتح بني قريظة والنضير ، رد
النبي عليه السلام على المسلمين ما كانوا قد تبرعوا به للدعوة وأضياف النبي من
نخيل وإبل ، فقد جاءت الغنائم ببديل كاف . وكانت لأنس بن مالك نخلات تبرع بها ،
فجاء إلى النبي ليستردها كما استرد الناس ، وكان النبي عليه السلام قد أعطاها
لأم أيمن ، فرفضت ردها ، وأمسكت بخناق أنس بن مالك ، والرسول يبتسم قائلا لها :
"لك كذا" ، فترد عليه "كلا والله" ، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يزيدها حتى
أعطاها عشرة أمثال نخلات أنس بن مالك لتتركها له . ولو حدث مثل هذا في أية
أُمَّة أخرى للقيت الجارية التي تتجرأ هكذا على سيدها – مصرعها في التو واللحظة
، لكنه النبي الذي أرسله ربه "رحمة للعالمين" الأنبياء:107 . وعندما لقي الرسول
صلى الله عليه وسلم ربه اشتد بكاء " أم أيمن " وسألوها عن السبب فقالت : والله
لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت ، ولكني إنما أبكي على الوحي
إذ انقطع عنا من السماء (4) .. ولذات السبب بكت " أم أيمن " عند استشهاد
الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلة : اليوم وَهَى – ضعف –
الإسلام .. يا لها من سيدة عظيمة حكيمة فقهت ما عجز عن فهمه كثير من الرجال
أمثال هؤلاء الذين يتطاولون على الإسلام بالداخل والخارج ، ولا يدركون كيف أعلى
الإسلام مكانة العبيد والجواري أمثال "أم أيمن" رضي الله عنها .


ويذكر الإمام ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق ريحانة بنت زيد
وتزوجها ثم طلقها تطليقة . والمهم هنا ما رواه الواقدي وشرف الدين الدمياطي من
أن الرسول عليه السلام قد أعتقها بدورها . ثم يضيف ابن القيم أنه عليه السلام
أعتق أبا رافع ، وأسلم ، وثوبان ، وأبو كبشة سليم ، وشقران واسمه صالح ، ورباح،
ويسار، ومدعم، وكركرة وهم من النوبيين . كما أعتق سفينة بن فروخ واسمه مهران،
وأنجشة الحادي ، وأعتق أنيسة وكنيته أبو مشروح ، وأفلح ، وعبيدة ، وطهمان قيل
إن اسمه كيسان ، وذكوان ، ومهران ، ومروان ، وكذلك حنين، وسندر، وفضالة، ومأبور،
وأبو واقد، وواقد، وقسام، وأبو عسيب، وأبو مويهبة رضي الله عن الجميع . وكذلك
أعتق النبي سلمى أم رافع، وميمونة بنت سعد، وخضيرة، ورضوى، وريشة، وأم ضمير،
وميمونة بنت عسيب رضي الله عنهن . وذكر الصنعاني في " سبل السلام "- كتاب
العتق- نقلا عن صاحب كتاب " النجم الوهاج " أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق
ثلاثة وستين نفسا بعدد سنوات عمره الشريف . وأعتقت زوجته السيدة عائشة رضي الله
عنها وحدها سبعة وستين عبدا وجارية بعدد سنوات عمرها أيضا . و أعتقت السيدة
خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه السلام عشرات من العبيد والجواري قبل وبعد
الإسلام رضي الله عنها . وأعتقت السيدة أم سلمة عشرات العبيد رضي الله عنها .
والثابت من حديث البخاري عن جويرية أنه عليه السلام:" لم يترك عند وفاته درهمًا
ولا دينًارا ولا عبدًا ولا جارية ". وهذا وحده كاف للرد على أولئك الحاقدين
الذين لا يفهمون – أو يتجاهلون عمدا – كل تلك المواقف التحريرية الخالدة في
السيرة العطرة .




حبيب الله ورسوله


بل إن قصة الصحابي الجليل " زيد بن حارثة " رضي الله عنها هي وحدها دليل قاطع
على منهج التحرير الإسلامي ، والمكانة السامية التي رفع الله إليها أولئك
العبيد الذين كانوا قبل الإسلام لا يُعَدّون شيئًا مذكورًا .


لقد تعرض زيد رضي الله عنه في صغره للخطف ، ثم باعه القراصنة في سوق "عكاظ "
بمكة قبل الإسلام . واشتراه حكيم بن حزام ثم وهبه لعمته السيدة خديجة رضي الله
عن الجميع ، ثم وهبته بدورها لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فأعتقه . وشاء
القدر أن يستدل والد " زيد " وعمه على مكانه بمكة ، فجاءا إلى النبي عليه
السلام ، وعرضا عليه ما يشاء من المال مقابل اعادة ولدهما إليهما . ولكن الكريم
بن الكرام عليه السلام رفض المال ، وعرض عليهما ما هو أنبل وأكرم ، وهو أن يتم
تخيير " زيد " بين البقاء عند النبي أو العودة مع أبيه وعمه إلى موطنه الأصلي ،
فإن رغب في الرحيل مع أبيه وعمه فهو لهما بلا أي مقابل ، وإن اختار البقاء مع
النبي فله ذلك .. هل يفعل هذا بشر غيره عليه الصلاة والسلام ؟! وفوجئ الأب
والعم " بزيد " يرفض العودة معهما إلى بلده وأمواله الطائلة وقبيلته الكبيرة ،
ويؤثر البقاء مع مولاه محمد بن عبد الله لما رأى من نبله وكرمه وحنانه الذي
يفوق حنان أبويه !! وهنا ردّ النبي عليه السلام التحية بأفضل منها ، فأعلن على
الملأ أن زيدا ابنه يرث كلاهما الآخر . كان هذا قبل الإسلام وقبل تحريم التبني
. وهنا رضي والد زيد وعمه ، واطمأنا إلى حسن مقام ولدهما عند النبي الكريم
فانصرفا سعيدين . فهل عامل أحد عبدًا بأنبل وأكرم من هذا ؟ وهل فعلها أحد غير
سيد الأولين والآخرين من قبل أو من بعد ؟ ! لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم
بعتق زيد وتبنيه بل زوّجه حاضنته " أم أيمن " التي كان قد أعتقها بدورها .. ثم
كانت الخطوة الأخرى الكبرى لتحطيم كل الفوارق بين البشر ، وتطبيق المساواة بين
الأسياد والعبيد على أرض الواقع . فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم – بعد
الإسلام – ابنة عمته الحسيبة النسيبة زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة .. وكان
القوم ما زالوا حديثى عهد بالجاهلية وفخرها بالأحساب والأنساب ، فوجدوا في
أنفسهم ضيقًا شديدًا وحرجًا بالغًا من هذه الزيجة التي اعتبروها غير متكافئة ،
بل تلحق بهم العار، طبقا لما كان عليه العرب في الجاهلية من أعراف وتقاليد .


وهكذا رفضت " زينب " وأهلها الأسياد بنو الأسياد مصاهرة عبد سابق ، فأنزل الله
تعالى آية خالدة : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا " الأحزاب :
36 . قال جمهور المفسرين – فيما يرويه ابن كثير والقرطبى والطبرى وغيرهم – أن
هذه الآية نزلت بسبب رفض زينب وقومها تزويجها من زيد بن حارثة ، فلما نزلت
الآية الكريمة قالت زينب رضي الله عنها : " إذا لا أعصي الله ورسوله قد أنكحته
نفسي " وقال أخوها عبد الله بن جحش رضي الله عنه: "يا رسول الله مُرْنِي بما
شئت" ، فتزوّج زيد زينب رضي الله عن الجميع(5).. ثم نزل بعد ذلك تحريم التبني،
فاسترد زيد اسمه الأول "زيد بن حارثة" بعد أن كان يُدعى قبل ذلك زيد بن محمد .
وكان رضي الله عنه وولده أسامة أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد
ابنته فاطمة رضي الله عنها ، وكان يقال لأسامة الحِبْ ابن الحِبْ – المحبوب بن
المحبوب – لمنزلتهما السامية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليس هذا فقط
بل إن "زيدًا" رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد الذي ذكره الله تعالى في القرآن
الكريم بالاسم صراحة في آية خالدة تتلى إلى يوم القيامة "فلما قضى زيد منها
وطرًا زوجناكها .." (الأحزاب : 37) . ولم يظفر بهذا الشرف الرفيع - الذكر
بالاسم الصريح فى القراّن - ولا حتى الصدّيق أو الفاروق رضى الله عنهما ، فهل
هناك تكريم لهذا العبد السابق أكثر من ذلك ؟!! كما عيّنه النبي عليه السلام
قائدًا للجيش في غزوة "مؤتة" أميرًا على أكابر الصحابة ، ثم ولّى ابنه أسامة بن
زيد قيادة الجيش من بعده . وعندما اعترض البعض قال النبى – صلى الله عليه وسلم
: "إن يطعنوا فى إمارته فقد طعنوا فى إمارة أبيه – زيد – وأيم الله إن كان
لخليقًا للإمارة ، وأن كان من أحب الناس إلىَّ ، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس
إلىَّ بعده" متفق عليه .


وعندما تُوفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجيش أسامة ينتظر خارج المدينة ،
أصر أبو بكر الصديق خليفته على أن يواصل أسامة مهمته تنفيذًا لأمر النبي عليه
السلام ، ورفض أن يستبدل أسامة ، أو أن يعزله عن منصب ولاه إيّاه الرسول صلى
الله عليه وسلم . وخرج "أبو بكر" يمشي مودّعًا للجيش ، وأسامة راكب على فرسه ،
ورفض أبو بكر أن يركب ، أو أن ينزل أسامة ليمشي إلى جواره .. هذا هو الإسلام
العظيم ، الرجل الثاني في الإسلام يمشي ، ومولى ابن مولى راكب على فرسه إلى
جواره قائدًا لجيش فيه أكابر الصحابة وسادات العرب .


ونذكّر بأن النبي صلى الله عليه وسلم نصح فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن تتزوج
أسامة بن زيد ، واختاره لها مُفَضِّلاً إياه على معاوية بن أبي سفيان السيد ابن
سيد مكة من قبل وأبو جهم رضي الله عن الجميع . فهل جاء أحد غير الإسلام بمثل
هذا ؟ !




جويّرية محرّرة قومها


كان الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق عدوًا شديد الضراوة للمسلمين . ولم يجد
الرسول صلى الله عليه وسلم مفرًّا من تجريد جيش لكف بأس بني المصطلق ، وبالفعل
لحقت بالحارث هزيمة ساحقة ، وقع فيها كل قومه في الأسر . وكان من بين الأسرى
ابنته جويّرية . فجاءت إلى النبي عليه السلام تطلب معونته في فك أسرها مقابل
تسع أواق تدفعها لثابت بن قيس الذي وقعت في نصيبه . فقال لها النبي صلى الله
عليه وسلم : " أو خير من ذلك " ؟ فسألت : ما هو ؟ . أجاب صلى الله عليه وسلم :
"أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" يعني أن يدفع عليه السلام المتفق عليه لثابت بن قيس
مقابل تحريرها ثم يتزوجها صلى الله عليه وسلم . فقالت : نعم يا رسول الله . قال
عليه السلام : "قد فعلت". وبهذه الزيجة المباركة تحرّر كل بني المصطلق من الأسر
، إذ انتشر الخبر بين الصحابة فقالوا جميعًا : أصهار رسول الله في الأسر ؟! أي
استنكروا أن يستبقوا بني المصطلق في الأسر بعد أن صاهرهم النبي ، وانطلقوا
فحرّروهم جميعا بلا مقابل . وكان رد فعل هذا الكرم النادر من قبل النبي وأصحابه
أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم . تقول السيدة عائشة رضي الله عنها "أعتق
بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها
منها"(6) . وهكذا حرّر النبي قبيلة بأكملها بهذه الزيجة .. فهل فعل هذا سواه ؟!
.


ونلاحظ هنا أن الرسول عليه السلام قد اتبع هذا الأسلوب الحكيم لتحرير الأسرى
بطريقة غير مباشرة أيضا مع أسرى هوازن وثقيف وكانوا ستة آلاف نسمة . فعند ما
جاءه وفد القوم مسلمين ، وناشدوه إخلاء سبيل أسراهم قال لهم : "ما كان لي ولبني
عبد المطلب فهو لكم" ، وأرشدهم إلى أن يأتوا وقت الصلاة، ويستشفعوا بالنبي إلى
المسلمين . ففعلوا ، فقام النبي وسأل الناس أن يخلوا سبيل الأسرى ، ولكل رجل لا
تطيب نفسه بالتخلي عن أسيره ستة من الإبل من أية غنائم تأتى إلى النبى فى أقرب
وقت ممكن ، تعطى له مقابل كل نفس يطلق سراحها. فقال المهاجرون : ما كان لنا فهو
لرسول الله ، وقال الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله ، وهكذا حرّر النبي كل
الأسرى ، ولكن بأسلوب غير مباشر كما حدث في غزوة بني المصطلق . والدعوة إلى
الخير تحتاج إلى مثل هذه الأساليب البارعة ، لأن كثيرا من الناس يمقتون الوعظ
المباشر ، والأمر أشدّ على الأنفس عندما تطالبهم بالتخلي عما يملكون بلا مقابل.




عتق صـفيّة


بعد فتح خيبر وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود في الأسر . وكان أبوها
وأخوها وزوجها قد قُتلوا جميعًا في المعركة . وطبقًا لما تعارف عليه العالم كله
آنذاك كان من الطبيعي أن تكون صفية كغيرها من السبي جارية يستعبدها من قهر
أباها في الحرب ، لأنه لو كان أبوها هو المنتصر لفتك بسبايا المسلمين ولم يبق
منهن نسمة كما يفعل اليهود المجرمون في كل مكان وزمان .. قال دحية الكلبي رضي
الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد المعركة : "يا رسول الله أعطني جارية من
سبي يهود" . فقال له عليه السلام : "اذهب فخذ جارية" ، فذهب دحية فأخذ صفية ،
فرآها الصحابة فعرفوها ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سِراعًا هاتفين
: يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير ، ما تصلح إلا لك . فأعطى الرسول
لدحية عوضًا عنها وضمها إليه .. ومن المهم هنا أن نسجل مَكْرَمة تخفى على كثير
من الناس ، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ صفية جارية كعادة الأمم
الأخرى ، بل بدأ عليه السلام بتكريم مثواها ، ثم خيَّرها بين العتق وإطلاق
سراحها إن أرادت البقاء على يهوديتها والرحيل معززة مكرمة إلى المكان الذي هرب
إليه بقايا قومها ، أو الإسلام والزواج منه بعد عتقها أيضًا .


ففي جميع الحالات أعتقها عليه السلام سواء تزوجته أم رفضت الزواج منه . وهكذا
هو الإسلام يجبر المكسور، ويعزّ به الذليل ، ويزداد الشريف به شرفًا . وافقت
صفية رضي الله عنها فورًا على الزواج من النبي قائلة : "يا رسول الله لقد هويت
الإسلام ، وصدّقت بك قبل أن تدعوني ، وخيرتني بين الكفر والإسلام ، فالله
ورسوله أحب إلي من العتق ، ومن الرجوع إلى قومي" .. فتزوجها عليه السلام وجعل
عتقها صداقها .


ويعلق الإمام ابن القيّم رضي الله عنه على ذلك بقوله : "جعل عتقها صداقها، فصار
ذلك سُنَّة للأمة إلى يوم القيامة أن يعتق الرجل أمته ويجعل عتقها صداقها ،
فتصير زوجته بذلك . فإن قال الرجل : جعلت عتق أمتى صداقها صح العتق والنكاح ،
وصارت زوجته من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي . وهو ظاهر مذهب أحمد وكثير
من أهل الحديث . انتهى .




بركات السيدة مارية


يثير الحاقدون على الإسلام موضوع تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته السيدة
مارية القبطية .. ويزعمون أنه لو كان نبيّا حقًا لما فَعَلَ هذا !! والرد على
هؤلاء ميسور بإذن الله .


ونقول أولا : أن التمتع بملك اليمين – الجواري – كان في شريعة الأنبياء من
قَبله عليهم جميعًا الصلاة والسلام .. فقد عاشر أبو الأنبياء إبراهيم عليه
السلام السيدة هاجر – المصرية أيضًا – بملك اليمين ، وأنجبت له سيدنا إسماعيل
جد العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك كان لإسحاق ويعقوب وداود
وسليمان عليهم السلام عشرات من الجوارى ، ولم يطعن أحد من الحاقدين عليهم بسبب
ذلك!! فهل تمتعه صلى الله عليه وسلم بجارية وحيدة هي السيدة مارية – حسب الراجح
من أقوال العلماء – يعد أمرًا غير حميد ؟! ولماذا لم يتفوه أحد بكلمة ضد تمتع
أخوته الأنبياء من قبل بالجواري ملك اليمين ؟!! إنه الحقد على الإسلام وحده
والكراهية المقيتة لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده . ثم لننظر ولنقارن حال
السيدة مارية قبل وبعد الإسلام لنعرف مدى كذب الحاقدين وإنكارهم للحقائق
الثابتة .


ماذا كانت السيدة مارية قبل الإسلام ؟ مجرد جارية من جواري المقوقس – كبير
نصارى مصر في ذلك العهد – لا يعرفها أحد ولا يهتم بأمرها أحد ، وكان أقصى ما
سوف تناله أن يعاشرها سيدها بمصر من حين لآخر بلا أية حقوق لها أو لأولادها
الذين كانوا سيصبحون عبيدًا كأمهم بلا ريب . أو كانت سوف تُبَاع لسيد آخر كما
تُبَاع البهيمة أو المتاع ، وهكذا تنتقل من سيد إلى آخر ، تعمل طوال النهار في
كل الأعمال الشاقة ، وتجبر ليلاً على ممارسة الجنس مع سيدها ، أو مع آخرين
ينزلون ضيوفًا على السيد - كوسيلة من وسائل الترفيه - فضلاً عن تعرضها للضرب
والأذى- وربما القتل- بلا ضوابط أو حدود أو قيود . ولكن الله تعالى أراد أن
ينقذ المسكينة مارية من هذا الإذلال والإهدار للآدمية ، وأن يخلّدها في
العالمين ، فأهداها المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا انقلبت
الأحوال بقدرة الله عزّ وجلّ من النقيض إلى النقيض . فقد أنزلها النبي عليه
السلام فى مسكن خاص مثل غيرها من نسائه ، وكان يجري عليها النفقة كالمأكل
والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو عليها ويقربها إليه ويعاشرها كباقي
زوجاته بمنتهى العدالة والنبل . وشاء الله عزّ وجل أن يُنْعم على السيدة مارية
بما لم تحظ به حتى السيدة عائشة أحب زوجات النبي إلى قلبه . فقد ولدت السيدة
مارية للنبي أحب أولاده إلى قلبه وهو "إبراهيم" عليه السلام . والمعروف أن
عائشة وحفصة وغيرهن من الحرائر من أزواجه لم ينجبن منه باستثناء السيدة خديجة
رضي الله عنها والتي كانت قد توفيت بمكة . وهكذا حظيت مارية رضي الله عنها
بالقسط الأوفر من المحبة والتكريم باعتبارها أم "إبراهيم" الولد المحبب إلى قلب
النبي صلى الله عليه وسلم .


و من بركتها أيضا أنها كانت سببًا في تشريع عتق "أم الولد" وهي الجارية التي
تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه الرحم ميتًا . إذ أنه فور علمه صلى
الله عليه وسلم بمولد ابنه إبراهيم من مارية قال صلى الله عليه وسلم : "أعتقها
ولدها" . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : "أيّما أمة
ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" أخرجه ابن ماجة في
كتاب العتق ، والدارمي في البيوع(7) ، وأحمد في مسنده (8) . فأي بركة تسببت
فيها سيدتنا مارية ؟ وأي خير أصاب الملايين من الجواري على مر العصور بسببها ؟
إنها لم تتحرر وحدها بمولد إبراهيم فحسب ، بل حررت معها كذلك كل جارية تلد
لسيدها ولو سقطًا غير مكتمل .


ثم هناك نعمة هدايتها للإسلام ، وأنها آمنت بالله وحده ربا لا شريك له ولا ولد
، وآمنت بنبيه الذي يحشرها الله معه في الجنة زوجة له مع أخواتها الأخريات .
ولم يكن هذا هو كل ما في حياة السيدة مارية من بركات .. فقد أبى الله إلا أن
تكون مارية المصرية سبب خير وبركة لأهل مصر كلهم .. روى الإمام مسلم- في فضائل
الصحابة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم
ذمة ورحمًا" . قال : ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام منهم ، وأم
إبراهيم ابن النبي عليهم السلام منهم(9) انتهى. وكفى المصريين فخرًا أن يكونوا
أصهارًا لإبراهيم ومحمد وأخوالاً لولديهما . وهكذا نالت السيدة مارية حريتها
بالإسلام ، وصارت كذلك أمًا لإبراهيم أحب ولد النبي إليه ، وأمًا لكل المؤمنين
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .


و كانت لها محبة في قلب النبي غارت منها بسببها السيدة عائشة .. تقول السيدة
عائشة : "ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية ، وذلك أنها كانت جميلة من
النساء جعدة – مكتملة الخلقة – وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان
أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان الرسول
عامة الليل والنهار عندها حتى فرّغنا لها فجزعت-أى عائشة- فحوّلها عنا إلى
العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقه الله منها
الولد وحرمنا منه" . انتهى . وكلمات السيدة عائشة واضحة الدلالة على عظم ما
أنعم الله ورسوله به على السيدة مارية التي كانت جارية من قبل ، جبرًا لخاطرها
ورفعًا من شأنها، بما لم تحصل على مثله أية واحدة من الحرائر .




عتاب إلهى


وقد عاتب الله رسوله بسبب السيدة مارية . فقد جامعها الرسول صلى الله عليه وسلم
مرة في بيت زوجته حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فغضبت السيدة حفصة
وحزنت أشد الحزن ، وقالت لزوجها عليه السلام : "ما صنعت بي هذا من بين نسائك
إلا من هواني عليك"، فلم يجد الزوج الحنون الرحيم ما يُطَيِّب به خاطر زوجته
إلا أن يُحَرِّم على نفسه أن يقرب أم ولده السيدة مارية ، وحلف لحفصة ألّا
يقربها . فنزل في ذلك قوله تعالى : "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك
تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم" (التحريم : 1) .


قال العلماء أن الله تعالى أعلم نبيه أن وطء جاريته حلال له ، ولا يجوز له أن
يُحَرِّم ما أحل الله له على نفسه ، وكل ما هنالك أن الرجل إذا قال لامرأته أو
أمته – جاريته – أنت حرام عليَّ فإن عليه الكفّارة، ويحل له مجامعتها بعد ذلك .
وهكذا كانت السيدة مارية رضي الله عنها سببًا هنا أيضا في رفع الحرج عن كثير من
الزوجات اللاتي يتلفظ أزواجهن بمثل هذه الكلمة ، فيظنون أن العلاقة الزوجية قد
انفسخت بذلك ، فأعلم الله الجميع أن هذه الكلمة هي مجرد يمين يكفرها الرجل إذا
لم ينو بها طلاقًا ، وعليه كفارة الظهار المغلّظة وهي تحرير رقبة – عتق عبد –
إن نوى بها الظهار طبقا للراجح من آراء العلماء التي بلغت 18 رأيا أوردها
الإمام القرطبي رضي الله عنه في تفسيره للآية الأولى من سورة التحريم(10) .
وروى الإمام الدارقطني في سننه عن ابن عباس رضي الله عن الجميع – أن رجلاً جاء
إلى ابن عباس فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا ، فقال له ابن عباس : كذبت
ليست عليك بحرام، وتلا الآية الأولى من سورة التحريم ، ثم قال للرجل : عليك
أغلظ الكفارات عتق رقبة . وقال جماعة من المفسرين أنه لما نزلت هذه الآية
كَفَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى معاشرة السيدة
مارية عليها السلام . قاله زيد بن أسلم وغيره طبقا لرواية القرطبي في تفسيره .


وهكذا تسببت السيدة مارية رضي الله عنها هنا أيضا في عتق أنفس أخرى كثيرة بعد
هذه الواقعة ونزول تلك الآية . فهل كانت تلك كل البركات لتحدث لولا اقتران
السيدة مارية بسيد ولد آدم عليه السلام ؟! وهل اجتمعت تلك المفاخر والمآثر
لامرأة أخرى سواها ؟!! .




سلمان منا آل البيت


كان سلمان رضي الله عنه رجلاً فارسيًا تعرّف في صباه على بعض النصارى فأعجبه
دينهم – قبل ظهور الإسلام – وترك عبادة النار ، ثم رحل إلى بعض الأديرة لعبادة
الله ، إلى أن انتهى به الأمر إلى راهب أخبره قبل موته أنه قد اقترب زمان النبي
الخاتم ، وأنه يبعث في مكة ويهاجر إلى أرض بها نخيل ، وحولها صحراء ، وأعطاه
مواصفات "يثرب" ، وعلامات يعرف بها النبي ، وهي أنه يأكل الهدية ولا يقرب
الصدقة ، وبين كتفيه علامة النبوة – خاتم النبوة – وعرض سلمان على قافلة من
الأعراب أن يعطيهم مالاً مقابل أن يحملوه معهم إلى بلاد العرب . لكنهم غدروا به
في الطريق ، وباعوه عبدًا لرجل من يهود يثرب . صبر رضي الله عنه على الرق وسوء
معاملة سيده اليهودي له حتى هاجر النبي عليه السلام إلى يثرب . فانطلق إليه
سلمان ، وتحقق من وجود العلامات الثلاث به فاحتضنه وبكى ممّا عرف من الحق . وقصّ
على النبي وأصحابه قصته . فأرشده عليه السلام إلى مكاتبة سيده اليهودي ليحصل
على حريته . اتفق سلمان مع اليهودي على أن يحرّره مقابل ثلاثمائة نخلة يغرسها
له وأربعين أوقية من ذهب . وقال النبي عليه السلام لأصحابه : "أعينوا أخاكم" ،
فجعل كل منهم يأتي بالنخلات الصغار قدر استطاعته ، حتى جمعوا له الثلاثمائة
المتفق عليها. و قام النبي صلى الله عليه وسلم بغرسها جميعا بيده الشريفة فنبتت
كلها ببركته . ثم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم سلمان قطعة صغيرة من الذهب
قائلا له : "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك". وبالفعل تحققت معجزة أخرى ووزنت
القطعة الصغيرة أكثر من حق اليهودي ، و تحرّر سلمان من الاستعباد . وبهذا
السلوك أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمة كلها إلى ضرورة اعانة المكاتب
ومساعدته على التحرر بتبرعات الأفراد، ومن بيت المال ، وأن يكون الحاكم قدوة
بنفسه في هذا المجال . وسلمان هو الذي أشار على النبي بحفر الخندق حول المدينة
لتأمينها ومنع الأحزاب الكافرة من دخولها في غزوة الخندق . وبلغ من حب النبي
وأصحابه لسلمان رضي الله عنه أن تنازع المهاجرون والأنصار أمره . قال المهاجرون
: سلمان منا نحن المهاجرون ، وقال الأنصار : بل سلمان منا نحن الأنصار ، فقال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم حسمًا للأمر وتكريمًا لسلمان : "سلمان منا آل
البيت" أخرجه الحاكم وابن سعد .


وهكذا رفع الله منزلة العبد السابق بالإسلام بجعله ليس فقط صاحبا لرسوله ، بل
منسوبًا إلى أهل بيته عليهم السلام أجمعين .


وما نعرف لهذا نظيرا في أيّة أمّة أخرى من الأولين و الآخرين . وقال عنه الرسول
عليه السلام : "سلمان سابق الفرس" . أخرجه أبو نعيم والحاكم ، وقال الذهبي
معناه صحيح . وشاء قدر الله أن يمتد بسلمان العمر حتى تولى إمارة المدائن –
بلاد فارس – في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وبذلك تولى العبد
السابق حكم بلاده الأصلية بعد زوال حكم كسرى بالفتح الإسلامي . ولم يمنعه من
تولي السلطة كونه عاش سنوات طوال عبدًا مملوكًا لبعض يهود يثرب .. فالله تعالى
يُؤتي الملك من يشاء ، بلا فرق بين حرّ وعبد ، أو غني وفقير .




سيدنا أعتق سيدنا


كان بلال بن رباح رضي الله عنه من العبيد السابقين إلى الإسلام ، وهو ممن
تعرّضوا للتعذيب المروّع بمكة لإجبارهم على ترك الدين الحق . وكان الرسول صلى
الله عليه وسلم يتألم من أجلهم ، وقال عليه السلام : "لو كان عندنا شيء ابتعنا
بلالا" ( أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب وهو في أسد الغابة 1/243) ، وسمع
بذلك أبو بكر فاشتراه بسبع أواق وأعتقه ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال
لأبي بكر: "الشركة يا أبا بكر" فقال أبو بكر : قد أعتقته ( ابن سعد 3/1/165) .
ولو لم يكن أجر العتق عظيمًا لما سأل النبي أبا بكر أن يشركه معه فيه .


وأخرج مسلم في فضائل الصحابة أن قوله تعالى "ولا تطرد الذين يدعون ربهم..." -الآيتان
52 – 53 من سورة الأنعام - نزل في بلال وآخرين من الضعفاء، قال المشركون للنبي
: اطرد هؤلاء عنك حين نجلس معك حتى لا يتجرأون علينا !! ولكن الله تعالى أنزل
أمرًا سماويًا للنبي بألا يطرد أولئك المؤمنين من أجل المتكبرين من المشركين ..
لأنه لا فضل لأحد على أحد في الإسلام إلا بالتقوى ، ولا قيمة لأموال المشركين
ولا أحسابهم في ميزان الله رب الجميع . وثبت عن النبي عليه السلام أنه قال : "بلال
سابق الحبشة" (رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم 3/285 وأقره الذهبي) . وكان
بلال رضي الله عنه مع الرسول في كل الغزوات ، وتولى الآذان طوال حياته لعذوبة
صوته . وشهد له النبي بالجنّة في حديث رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي
وغيرهم . وعندما أذن أبو بكر لبلال في السفر والمقام بالشام ذهب هو وصاحبه "أبو
رويحة" إلى قوم من أكابر العرب في الشام ليخطبوا اثنتين من بناتهم . قال بلال
لهم : إنا قد أتيناكم خاطبين ، وقد كنا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا
الله ، وفقيرين فأغنانا الله ، فإن تزوجونا فالحمد لله ، وإن تردّونا فلا حول
ولا قوة إلا بالله . فوافق القوم على الفور مرحبين بصاحبي الرسول وزَوَّجُوهما
من اختارا ، رغم أن تلك القبيلة "خولان" هي واحدة من أعرق القبائل بالشام كله .
وهكذا يتساوى الجميع في الإسلام، ولا تفضيل لحرّ على عبد إلا بمعيار الإيمان
والعمل الصالح . ويكفي لبيان ما وصل إليه بلال من مكانة سامية بالإسلام أن عمر
بن الخطاب الرجل الثالث في الإسلام قال عن أبي بكر وهو يصف مناقبه : "وهذا
سيدنا بلال حسنة من حسناته"، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره قال عمر بن الخطاب :
"أبو بكر سيدنا أعتق بلالا سيدنا " .


أرأيت كيف وصف أمير المؤمنين الفاروق عمر بلالاً بأنه "سيدنا" ، وهو الذي كان
عبدًا مغمورًا ضائعًا في شعاب مكة قبل الإسلام ؟!




صبرًا آل ياسر


كان صلى الله عليه وسلم يمر بالضعفاء من أصحابه وهم يعانون أشد ألوان التعذيب
تحت لهيب شمس مكة الحارقة ، ومنهم ياسر وزوجته سميّة مولاة بني مخزوم وابنه
الصحابي الجليل عمّار بن ياسر مولى بني مخزوم أيضا . وروى الطبراني والهيثمي
والحاكم – وصححه الذهبي – أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم " صبرا آل ياسر
، فإن موعدكم الجنة ". وهي شهادة نبوية ثابتة لهم بالجنة إن شاء الله . ونزلت
في عمّار الآية الكريمة "إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان" ، فقد عَذّبَه
الكفار حتى سبّ النبي تحت الإكراه خشية القتل ، وذهب بعدها يبكي فسأله النبي :
"فكيف تجد قلبك ؟" ، أجاب عمّار : مطمئن بالإيمان ، فقال له النبي عليه السلام
: "فإن عادوا فعد" ، يعني أنه لا إثم عليه فقد فعل هذا مضطرًا مكرهًا . أخرجه
الطبري وأبو نعيم وابن سعد والحاكم .


وروى الترمذي في المناقب - وصححه الحاكم والذهبي- وروى أبو نعيم والهيثمي أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "اشتاقت الجنة إلى ثلاثة علي وعَمَّار وبلال".
وكانت سميّة أم عمّار أول شهيدة في الإسلام ، إذ طعنها أبو جهل اللعين بحربة في
قُبُلها ففاضت روحها في الحال .. ألا يكفي الرقيق شرفًا أن أول من نال الشهادة
وهي درجة عليا يتمناها حتى النبي كانت واحدة من الجواري هي السيدة سميّة ؟!!.


والأحاديث في فضائل عمّار بن ياسر كثيرة نختار منها أنه عليه السلام قال فيما
يرويه أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي : "اقتدوا بالذين من بعدي
أبو بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" .


وروى الحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "إذا اختلف الناس كان ابن
سميّة مع الحق" . وأخرج أحمد والحاكم والذهبي : "ما خُيِّر ابن سميّة بين أمرين
إلا اختار أيسرهما" . وأخرج مسلم وأحمد وابن سعد : أن عمّارًا كان يحمل لبنات
من الطوب لبناء المسجد النبوي أكثر مما يحمل أصحابه ، فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم ينفض رأسه ويقول : "ويحك يا ابن سميّة تقتلك الفئة الباغية" . وبالفعل
استشهد عمّار يوم صفين ، قتله جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ، وكان
عمّارُ في جيش الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.


وكانت بين خالد بن الوليد وعَمَّار بن ياسر رضي الله عنهما مشادة، فأغلظ له
خالد القول ، فشكاه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام : "من
عادى عمّارًا عاداه الله ، ومن أبغض عمّارًا أبغضه الله" أورده الذهبى فى سير
أعلام النبلاء ، فخرج خالد مسرعًا حتى لقي عمّاراً واعتذر له واسترضاه حتى رضي
. هل رأيتم ؟ الله عز وجل يعادي من عادى عمّارًا العبد السابق والرب يمقت من
يمقته ؟!. هل يطمع أحد من الأحرار في منزلة أعلى من تلك التي بلغها عمَّار ؟!!
.




سابق الروم


وهناك حفاوته عليه السلام وتكريمه لصهيب بن سنان الصحابي الجليل الذي وصفه
النبي بأنه "سابق الروم" (أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" والحاكم 3/15/2 )
و قد تقدم مثله عن سلمان و بلال.(11). ومعنى سابق الروم أنه سبقهم جميعًا إلى
الإسلام ثم إلى الجنّة بإذن الله . وصهيب رضي الله عنه كان من الموالي في مكة ،
ولم يفلته المشركون أثناء الهجرة إلا بعد أن دَلَّهم على كل أمواله فتركوه
ليهاجر إلى "يثرب" فقيرًا مريضًا لا يملك قوت يومه .. ولكن حبيبه المصطفى
تلقّاه في يثرب مبشّرا له بالفوز العظيم ورضوان الله عن صفقته المباركة . ونزلت
فيه آية كريمة خالدة تثني عليه وتبشره بالرضوان والفوز الكبير . قال تعالى : "
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " (البقرة : 207) . قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب
وأبو عثمان النهدي وعكرمة وغيرهم : نزلت هذه الآية في صهيب بن سنان الرومي ،
عندما اضطره المشركون إلى التخلي عن كل ما يملك ليسمحوا له بالهجرة إلى حيث
النبي في يثرب ، فأعطاهم كل ماله ليهاجر ويفر بدينه (12) ، وروى ابن مردويه –
فيما ينقله ابن كثير – أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره قائلا له مرتين "ربح
صهيب ربح صهيب" .


لكل هذه المواقف المضيئة في السيرة العطرة وغيرها ، لم يملك المنصفون من غير
المسلمين سوى الاعتراف لسيد الخلق عليه السلام بأنه رسول من عند الله حقًا ،
والإقرار بما كان عليه من خلق عظيم لم يؤت مثله أحد من قبل أو من بعد . وقد
وصفه أحد هؤلاء


وهو الدكتور راما كريشنا راو – بصفات عظيمة كثيرة منها أنه هو بحق: "محرر
العبيد" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم(13).


اللهم كما أعتقت رقاب البلايين من الكفر والرق ، أعتق رقابنا وإياهم من النار .
آمين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .