مرات مشاهدة الصفحة في الأسبوع الماضي

2011/08/28

الأنساق الموسيقية لعروض الشعر الحساني



إن الشعر الحساني (لغن) لا يزال غفلا من الدراسات المنهجية أو شبه ذلك, إذ أن جل ما ألف أو كتب فيه لا يعدو في الغالب الأعم محاولات هنا وهناك هي في مجملها أقرب إلى التدوين السردي للنصوص الشعرية منها إلى الدراسات النقدية المنهجية التي تحاول استنطاق النصوص وسبر أغوارها لإبراز خصائصها الأدبية والوقوف على مكامن الجمال الفني ومظاهر الإبداع الأدبي فيها, ومن هنا كان على كل من يمتشق قلمه ليتناول هذا الفن بالبحث والنقد أن يأخذ في الحسبان شح المصادر كمّا وكيفا, ومن هنا ـ والحالة هذه- فقد قررت في محاولتي دراسةَ هذا الموضوع أن أعتمد أسلوبا إجرائيا يتخذ من الشعر العربي الفصيح متكأ باعتباره الحاضن والرافد الرئيس للشعر الحساني, وذلك لمنافشة أسئلة من قبيل: ما هو دور الموسيقى في البناء العروضي لبحور الشعرالحساني (لبتوت)؟ وما ذا وراء تسمية هذا الفن الأدبي ب "لغن"؟ ثم ما علاقة ذلك كله باستمرار أو اندثار بعض البحور دون بعضها الآخر؟
وفي هذا الإطار, أعني بالأنساق الموسيقية لعروض الشعر الحساني ذلك التتابع النمطي المحكم لأصوات الحركات والسكنات لمختلف الحروف في الوحدة العروضية (التاقلويت), ومن أجل ذلك أقسم هذا الفن الأدبي (الشعر الحساني) إلى مركبتين اثنتين هما:
1. القلب أو المضمون
2. القالب أو الشكل
أما القلب أو المضمون فهو الرسالة التي يسعى الأديب إلى توصيلها للمتلقي وهي الهدف من وراء العملية الشعرية برمتها ـ إن صحت التسمية ـ إلا أن هذه المركبة لا تقع في دائرة هذا البحث لأن الموسيقى الداخلية للنصوص والأجراس المتولدة من استخدام الأساليب البلاغية بديعا ومعاني لا دخل لها في العروض إطلاقا.
أما المركبة الثانية فهي القالب او الظرف الذي يقدم فيه الشاعر مادته أو رسالته للمتلقي عسى أن يتقبلها بقبول حسن, ويكون حظها من القبول الحسن عادة بقدر حظها من الإنبات الحسن, و يعوِّل الشاعر في ذلك على عناصر متعددة تأتي في مقدمتها الأنساق الموسيقية بالمعنى الذي ذكرنا مشكلة إيقاعا موسيقيا يعطي لكل وحدة عروضية (تافلويت) طابعها الموسيقي الذي تميزها عن غيرها, ومن هنا تعتبر االموسيقى من أهم الدعائم اللتي يقوم عليها البناء العروضي للشعر الحساني, بل إن موسيقى الأنساق العروضية بهذا المعنى تمثل الحد الفاصل بين الشعر وقسيمه: النثر, اللهم إلا إذا أقحمنا قسرا ما يسمى القصيدة النثرية في الشعر الفصيح واتْفَيْتِيت في الشعر الحساني مع ما يترتب على هذا الإقحام من اعتساف وإجحاف بهذين الفنين (الشعر والنثر) يسيء إليهما أكثر مما يحسن ويضرهما أكثر مما ينفع, ولعل أبسط تبعات تلك العملية الجنونية ذوبان الفارق الجوهري بيهما وحينها لن يعود لدينا شعر أو نثر وإنما يصبح لدينا كائن آخر هلامي الشكل عديم المعالم والملامح. وهنا تكمن العلاقة العضوية بين الشعر الحساني والموسيقى, ممثلة في الأنساق الموسيقية اللتي ذكرنا سابقا أنها تتمثل في ذلك التتابع النمطي المحكم لأصوات الحركات والسكنات لمختلف الحروف في التافلويت, وهكذا تبعا لهذا التعريف الإجرائي تختلف الأنساق الموسيقية باختلاف أصوات الحركات والسكنات سواء من حيث عددها الكمي أوموقعها النسبي في التافلويت, ومن هنا يكون النسق الموسيقي لا يميز الشعر عن النثر فقط, وإنما أيضا يميز البحور الشعرية (لبتوت) عن بعضها البعض, فمثلا نلاحظ ان تتالي الساكنين أو "الكدعه" أو "النتره " ـ ولا أحبذ تسميته "احراش" يغير وجوده أو موقعه النسبي التافلويت من بت إلى آخر يختلف اختلافا أوجوهريا. فغياب هذه الكدعه ـ ولا تعتبر إلا إذا كانت قبل المتحرك الأخيرـ يميز لبتوت المسرومة (أي اللتي لا گدعة فيها) ويكون حينها الفارق بينها هو عدد المتحركات, ويتعلق الأمر هنا بابتوتت: لبتيت التام, التيدوم, لبتيت الناقص, حثو الجراد, احويويص, وحتى ابتوتت: 3 و 2 و 1 وإن كان لا يعتد بها , أما مع وجود هذه الـگدعة فيكون عدد الـگدعات وموقعها النسبي في التافلويت وعدد المتحركات هي العوامل المحددة للبت, فمثلا الموقع النسبي لـگدعة واحدة في تافلويت من سبعة متحركات يميز بين امريميده, بوعمران, وبت المصري كما يسميه مخترعه أو باعثه على الأقل أحمدو ولد الداه ولمن لا يعرف هذا البت فقد مثلت له بـگاف أسميته فيه ب "التعفريت" فقلت:

بت اتعفريت ذا شكلُ***سبعَ يغـــير بأربعَ
واثلاثَ فــيه ينفتلُ***في النتاقلويت بالكدعَ
فهذا البت كما يوضح الـگاف بتكون من سبعة متحركات تتوسها گدعة واحدة بعد المتحرك الرابع, أما بوعمران فتأتي گدعته بعد المتحرك الأول بينما تكون گدعتة امريميده بعد المتحرك الثاني, أما لبير فله ثلاثة أذرع هي: آگلال لبير (وهو ما تنصرف إليه تسمية لبير عند إطلاقها) وتاطرات لبير وتيدوم لبير, وأذكر مرة أنه سألني أحد أصدقائي النابهين عن الفروق بين هذه الأذرع الثلاثة فقلت له على البديهة: "احمر لبير افتاطرات والتيدوم افكصرات" فلاحظ بحسه ما لم أقصده أنا من أن هذه الجمل تمثل تافلويتين من لبير فكملهما قائلا:
لبير أخبار بعـد جات***هــاذ هي حالاتٌ
"احمر لبير افتـاطرات***والتيدوم افكصرات"
فهذا الـگاف من لبير (أگلال) الذي يتميز بـگدعة قبل المتحرك الأخير من الحمرة ويساكن ميت في ذات الموقع من الكسرة, أما تاطرات فمثالها
ماخالك نوم ألا اگـعاد***أغلان تظفــر ظالَّ
مرت بالبال إلين عـاد***فاصل فاحجاب الظالّ
ونلاحظ هنا كما بيّن صديقي في گافه أن كل تافلويت من تاطرات يمكن أن تكون حمرة من لبير. أما التيدوم فيوجد بنكهتين:
 تيدوم بنكهة لبتيت ويكون فيها مسروما أي لا گدعة فيه إلا بعد المتحرك الأخير جوازا, أي انه عبارة عن ابتيت تام ناقض متحرك واحد, ومثاله التقليدي:
من يامس هو واليوم***هون البداعّ يطم
وامنين انكال التيدوم***ويل البداع حشمُ
فمثلا إذا أبدلنا الساكن الحي الأخير بساكن ميت من تافلويت: "ويل البداع حشمُ" لتصبح: "ويل البداع حامُ" فإنها ستكون كسرة من أكلال لبير, أما إذا أضفنا له ساكنا ثانيا ليصبحا گدعة وتصبح التافلويت " ويل البداع حاشمُ" فإنها ستكون حمرة من أكلال لبير
 تيدوم بنكهة لبير ويكون فيها مسروما لا گدعة فيه مع التزام ساكن ميت واحد قبل المتحرك الأخير هو ساكن كسرة لبير ولذلك كل تافلويت منه يمكن أن تكون كسرة من لبير وهو ما قصدته أنا وصديقي في گافه السابق ومن أمثلته:
أراع بالــــوزانَ ***بت التيــدوم الوازن
كيف الـگاف الكلت آنَ***خـازن فيه اللي خازن
ومن هذه الأنساق الموسيقية التي يعود إليها وحدها التصنيف العروضي للشعر الحساني نشأت تلك العلاقة العضوية التي تربط الشعر الحساني بالموسيقى الحسانية أو لغن بالغناء, ومن تجليات هذه العلاقة ذلك الترافق المعروف بين بحور الشعر الحساني (ابتوت لغن) ومقامات الموسيقى الحسانية (اظهورت أزوان), حيث أن هناك تقابلا شيه كامل بينهما يتسايران فيه جنبا إلى جنب في ثنائيات بديعة تبدأ من ثنائية (كر,امريميده) وتواصل حتى ثنائية (بيكي,لبتيت). وربما من هنا جاءت تسمية الشعر الحساني ب "لغن".
وعندما نمتطي هذا الطرح لنناقش النشأة الأولى للشعرالحساني للبحث في إشكالياتها فإننا قد نتمكن من حل الكثير من ألغازها ونكون على بينة من الكثير مما قد نتوصل إليه من أحكام. وفي هذا الضدد, فإن أهم إشكاليات النشأة في الشعر الحساني تتمثل عندي في التساؤلين المحورية التاليين:
 كيف بدأ الشعر الحساني؟
 ماهو أقدم ما وصل إلينا من الشعر الحساني؟
وأعتقد أننا بقدر ما نساهم في الإجابة على هذين التساؤلين المهمين, نساهم في الإجابة على التساؤل الأهم: متى بدأ الشعر الحساني؟
وللإجابة على التساؤل الأول, سأكون أكثر ولاء للإجرائية اللتي اعتمدت أسلوبا من البداية وأقول إنه باستقراء الكائنات أو الماهيات الطبيعية من حولنا أو في أذهاننا نجد أنها تبدأ في نشأتها من أطوار أولية ثم تدخل بعد ذلك سلسلة من مراحل التطور والنمو حتى تكتمل بنيتها ويتم نضجها ولا أعلم لهذه القاعدة من استثناء ولا حتى الإستثناء الذي يؤكد القاعدة, بل إن عدم الإستثناء هنا هو الإستثناء الذي يؤكد قاعدة أن"لكل قاعدة استقناء يؤكدها". ومن هذا الأساس انطلق مؤرخو الأدب العربي إلى القول بأن الشعر الجاهلي لا يمثل بداية الشعر العربي وإن كان هو أقدم ما وصل إلينا منه إذ يستحيل في نظرهم ان تكون البداية من هذا المستوى الناضج الذي يتميز به ذلك الشعر, مما أسس بدوره لنظرية الإنتحال في الشعر الجاهلي. وهذا المنطلق هو ما يقعدني عن الذهاب مع الأستاذ الأديب المبدع التقي ولد الشيخ إلى القول بأن مساجلة (اكطاع) أهل الذراع وأهل آفطوط تمثل باكورة ما قيل في هذا الفن , حيث قال صاحب اهل آفطوط:
مزينْ ولْفِ تيدْ ادْمــاعْ***إلى ركبتْ فــوگْ ارْباعْ
لصْفرْ كيفْ اغزالْ اذراعْ ***تتغــزغـزْ تيشمــيتُ
كاردْ سهبْ اعـليه انباعْ***بحْمـــاه ؤتيفكشــيتُ
فرد عليه صاحب أهل آفطوطرقائلا:
مزينْ ولْفِ تيد ارْمـاشْ *** إلى ركبتْ فـوگْ آوداشْ
لحمْرْ الفي جَنبوابْـراشْ ***حــافلتُ تيـجفيـــتُ
كاردْ خطْ اعليهْ ارشـاشْ ***تتــگـاطـرْ تيكـفِّيتُ
إذ تستحيل في نظري البداية من هكذا مستوى, كما أنه ـ وفي نظري دائما ـ يتعين وجود شاعر واحد أولا ثم بعد ذلك شاعران يتساجلان أو أكثر, أما أن تكون البداية بشاعرين أو أكثر ومن هذا المستوى فتلك مسألة ربما فيها نظر.
وبعدم استثناء الشعر الحساني من هذه القاعدة يتعين علينا أن نسلم بأنه بدأ كما بدأ غيره وأن بدايته كانت كأي بدايةٍ بعيدةً عن النضج والكمال الذي تمثله هنا تلك الأنساق الموسيقية المحكمة اللتي تنتظم الشعر الحساني على النحو الذي أشرنا إليه سابقا. وبهذا الجواب على التساؤل الأول يتحدد تلقائيا الجواب على التساؤل الثاني وهو أن أقدم ما وصل إلينا من الشعر الحساني هو أبعد ما بين أيدينا منه عن الإتِّساق في تلك الأنساق الموسيقية التي اعتبرناها أهم أمارات النضج والكمال في هذا الفن, وذلك أن الشعر الحساني ما كان ليصلها قبل أن تكتمل بنيته ويقسئن عوده, وبعبارة أخرى فإن أقدم الشعر عندي هو أقربه إلى النثر باعتبار هذا الأخير سابقا تطور عنه الأول لاحقا.
وبناء على ذلك يكون الشعر الحساني بدأ مع لبتوت الميتة مثل البث الكبير وخاصة بعض نسخه البدائية مثل بت اتـگسري, والواكدي وغيرهما... حيث أن هذه "لبتوت" تتميز بضعف موسيقى ناشئ من تغير عدد المتحركات وعشوائية موقع الكدعات في التيفلواتن مما أدى إلى ضعفها الفني وتلاشيها واندثار ما قيل فيها من إنتاج هو في الحقيقة ما يمثل اليواكير الأولى للشعر الحساني. ثم أخذ ينمو ويتطور كأي كائن ناشئ آخر حتى استوى على سوقه المتمثلة في لبتوت المعروفة اليوم لدينا ويمكن القول إن سر بقائها يكمن في قوة موسيقاها العائدة اساسا إلى أنساقها الموسيقية المحكمة على النحو الذي بيّنا سابقا. وبناء على هذا التصور تكون النصوص التالية من أقرب ما وصل إلينا من الشعر الحساني إلى البدايات:
يقول أحدهم مادحا: گرْگار لشيــاخ تِينْدَكُّوتْ لبَّ***أدب وأدبهم مـا إسرح الجيهَ
يِدْبَكْ بالدبوس ما اتطيح زغبَ***لا اتمسّك غير اتم حاس بيهَ
وبكاء على الأطلال: ظـل هيكــور يوم كلف***من عـند آوكـار لادرار
ينبح الصــج ابراص كف ***كيف أثر السـيرار فيرار
وأترك للقارئ الكريم التعليق على هذه النصوص بعدِّ متحركاتها وتحديد المواقع التسبية لـگدعاتها.
وهكذا نكون قد توصلنا من خلال هذه المقاربة الإجرائية الى ان الأنساق الموسيقية تقسم الشعر الحساني عروضيا إلى ثلاث مجموعات هي:
1. مجموعة البتوت المسرومة: وهي اللتي لا توجد بها گدعة قبل المتحرك الأخير
2. مجموعة البتوت المكدوعة: وهي اللتي توجد بها گدعة واحدة على الأقل قبل المتحرك الأخير
3. مجموعة البتوت المهجورة: وتتميز بكدعات عشوائية التموقع ومتحركات غير ثابتة العدد, وتعتير هذه المجموعة بدائية ومندثرة أو في حكم المندثر نظرا لفشلها في امتحان الموسيقى وبها بدأ الشعر الحساني خطواته الأولى نحو الظهور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق